الرسالة الأولى

رسائل القديس العظيم الأنبا أنطونيوس

أب كل الرهبان

 

 
الرسالة الثانية

الرسالة الثالثة

الرسالة الرابعة
الرسالة  الخامسة
الرسالة السادسة
الرسالة السابعة
الرسالة الثامنة
الرسالة  التاسعة
الرسالة العاشرة
الرسالة الحادية عشرة
الرسالة الثانية عشرة
الرسالة الثالثة عشرة
الرسالة الرابعة عشرة
الرسالة الخامسة عشرة
الرسالة السادسة عشرة
الرسالة السابعة عشرة
الرسالة الثامنة عشرة
الرسالة التاسعة عشرة
الرسالة العشرون
   

 
 

الرسالة الأولى

1ـ قبل كل شئ، أنا أطلب خلاصكم بالرب.

وأقول أن الأرواح التى بُلِّغت إليها بشارة روح الله، من رجال ونساء، ثلاث رتب:

الأولى: هى رتبة الذين قبلوا  ـ وفقاً لناموس الطبيعة والحرية الموضوعة فيهم أولاً ـ ما بُلغ إليهم من البشارة بواسطة القول، ولم يتوانوا بل أسرعوا وهم مستعدون تماماً كما كان أبونا إبراهيم مستعداً بناموس الطبيعة، ولهذا كلمه الله قائلاً: "اخرج من أرضك ومن بنى جنسك وادخل إلى الأرض التى أريك إياها" (تك12: 1)، ولا تكن ذا قلبين. فاستعد إبراهيم لهذه الدعوة وصار مثالاً للذين يبتدئون. وإلى الآن (ما زالت ) هذه الدعوة ثابتة للذين يريدون الدخول فى هذا الشكل[1]، إذ هم صنعوا هكذا حتى يكون قلبهم مستعداً أن يتبع روح الله، فهم ينالون المواعيد براحة (عب11: 33)، وهذه هى صفة هؤلاء.

والرتبة الثانية: هم الذين يسمعون المكتوب، وهو يشهد لهم بالدينونة التى تكون للخطاة والمواعيد الصالحة التى لمن يبتغى الصلاح، ومن أجل هذه الشهادات المكتوبة فى الناموس تيقظت نياتهم وطلبوا الدخول فى هذه الدعوة، كما قال داود إن "ناموس الرب يحى النفوس" (مز18: 7)، وقال أيضاً: "كلامك يضئ لى، وناموسك يعلم الأطفال" (مز130: 118). والمكتوب مثل هذا كثير.

والرتبة الثالثة: وهم الذين قلوبهم قاسية ومدمنون على فعل الخطايا ـ فيجلب عليهم الله الرحوم مصاعب وشدائد حتى تتنبه سرائرهم ونياتهم لكثرة ما يأتى عليهم، فيندمون ويرجعون ويستعدون ويدخلون إلى هذه الدعوة ويتوبون من كل القلب، وينالون المواعيد كالرتبتين الأولى والثانية.

فهذه هى الرتب الثلاث التى تُدعى بها النفوس الراجعة للرب حتى تنال نعمة الإله ابن الله.

2ـ وأنا أقول إن كل الذين دخلوا بكل قلوبهم يتعلمون الصبر إلى أن يقدروا على مقاومة العدو. هؤلاء قبل كل شئ يدعوهم الروح القدس ويسهل عليهم كل الأمور حتى يُحلَّى لهم الدخول فى التوبة، ويُظهر لهم طرقها الحقيقية لكى يتوبوا بأرواحهم وأجسادهم، ويرجعوا إلى الله الخالق فيعضدهم بالقوة حتى يُقمعوا الجسد والروح لكى يطهرا كلاهما ويصيرا وارثين الحياة الأبدية.

أما الجسد فنُتعبه بالصوم الكثير والسهر والجهاد وبقية الخدم التى هى الأثمار الجسدية. ولهذا (تؤازر) روح التوبة ذلك الإنسان وتعزيه وتُعرفه أن لا يرجع إلى ورائه ولا يتعلق بشئ من أمور العالم. كما وتفتح عينى النفس أيضاً (لمعرفة) التوبة الحقيقة لكى تتطهر مع الجسد، ويكون كلاهما واحداً فى الطهارة، لأن هذا هو تعليم الروح القدس. لأنه يقودهما ويطهرهما ويمحو منهما الطبائع (الغريبة) الممتزجة بالجسد، وينقلهما كليهما إلى الخلقة الأولى التى كانت لهما قبل المخالفة. ولا يبقى فى الإنسان شئ  من أمور العدو. وعند ذلك يصير الجسد تابعاً لإرادة العقل الذى يطهره فى أكله وشربه ورقاده وسائر تصرفاته، ويتعلم دائماً من الروح القدس، كما يقول الرسول: "إننى أقمع جسدى واستعبده" (1كو9: 27)

3ـ وأنا أعلم أن فى الجسد ثلاث حركات: الأولى فيه وليس لها أن تفعل شيئاً بغير إرادة النفس. والحركة الثانية تدفع الجسد إلى المآكل والمشارب الشهية؛ وحرارة الدم المتولدة من كثرة الأغذية تثير الحرب فى الجسد وتستميله إلى الشهوات الرديئة. ولذلك قد حذر سيدنا المسيح له المجد تلاميذه بقوله: "لا تثقل قلوبكم بالشبع والسكر" (لو21: 34). وبولس الرسول يقول: "لا تسكروا بالخمر الذى يكون منه المجون" (اف5: 8). فيجب، إذن، على كل من لبسوا زى الرهبنة أن يقولوا مع بولس الرسول: "إننى أخضع جسدى واستعبده" (1كو9: 27). والحركة الثالثة هى من الأرواح الشريرة لكى ترد الذين يريدون الدخول فى باب الطهارة.

ولكن النفس إذا تسلحت بالصبر الدائم وبالشهادات التى من نَفَس (روح) الله، فالروح القدس يرشد العقل إلى تطهير النفس والجسد كليهما من هذه الثلاث حركات.

فإن غفل الإنسان عن هذه الشهادات والتعاليم التى قد سمعها، فحينئذ تقوى عليه الأرواح الردئية وتنجس جسده؛ إذ ذاك تفكر نفسه كيف تأتيها المعونة. فإن رجعت والتصقت بروح الخلاص، فهى عند ذلك تعلم أن الصبر من أجل الله هو راحتها وسلامتها.

4ـ وهذه الأقوال التى قلتها لكم هى من أجل اتفاق الجسد والنفس فى التوبة. فإذا نال العقل هذه النعمة، عند ذلك يطلب (يصلى) بالروح القدس ويبتدئ أن يطرد عن النفس كل المصاعب التى تأتى عليها من شهوات القلب.

وهذا الروح (القدس) إن كان له شركة مع العقل ليساعده على حفظ الوصايا التى تعلمها، فإنه يرشده لينزع عن النفس تلك الأوجاع التى امتزجت بالجسد، واحدة بعد أخرى؛ وأيضاً الأوجاع التى لها (أى للنفس) خاصة وكائنة فيها. فالروح ينزعها تماماً من قمة الرأس إلى أسفل القدمين: فالعينان لتضيئا باستقامة وتنظرا بطهارة، ولا يبقى فيهما شئ غريب (دنس). والأذنان ليسمعا بسلام لا بنميمة ولا بتعيير البتة، بل باستقامة وتراءف على جميع الخليقة. وأيضاً اللسان يتكلم بالطهارة، والنفس تُعلِّم اللسان أن ينطق دائماً بالخير؛ لأن هذه الأوجاع كلها كانت قد تسلطت عليها من اللسان، كما قال يعقوب الرسول: "إن من يقول إننى أخدم الله وهو لا يلجم لسانه، فهو يُضل قلبه وتكون خدمته باطلة" (يع1: 26). وهو يقول فى موضع آخر: "اللسان عضو صغير، لكنه ينطق بالعظائم وينجس الجسد" (يع3: 5، 6). ومثل هذا كثير فى الكتب المقدسة. فإذا تقوَّى العقل وأخذ من الروح فإنه يتطهر، وعند ذلك يفحص عن كل كلام ينطق به اللسان حتى لا تكون فيه إرادة جسدية، وبهذا يكمل عليه قول سليمان: "الكلمات التى أُعطيتها من الله ليس فيها ميل ولا اعوجاج" (أم8: 8). ويقول أيضاً: "لسان البار يشفى الأمراض" (أم12: 18)

وأيضاً للأيدى حركات أخرى تعمل فى بعض الأوقات بهوى النفس، وهذا ليس من الواجب؛ لأن الروح أعدها للطهارة ولرفعها للصلاة وفعل الرحمة والعطاء، فيكمل عليها القول المكتوب من أجل هذه الصلوات الطاهرة: "رفع يدى كقربان المساء" (مز140: 2). ويقول من أجل الرحمة والعطاء: "يد الأقوياء تعطى بسعة" (أم10: 4).

والبطن أيضاً يتحرز من المآكل والمشارب كما يقول الروح على لسان داود النبى: "انى لم أؤاكل الرغيب العين والشره القلب" (مز100: 5). فإن تسلطت عليها (أى على البطن) كثرة المآكل والمشارب وعدم الشبع، واجتذبتها النفس الشهوانية إلى ذلك فإن قوة العدو تختلط معها.

فالذين يطلبون هذه الدرجة العالية من الطهارة، روح الله يهديهم إلى طرقه المستقيمة، ويثبتهم فى الطهارة واستقامة الجسد، ويكمل عليهم قول بولس الرسول: "إن أكلتم أو شربتم فكل ما تفعلونه يكون لمجد الله" (1كو10: 31). لأنه إذا قويت هذه الثلاث الحركات المذكورة سابقاً على الجسد لتميله عن الاستقامة، فالذى يكون طالباً الخلاص بالحقيقة ينزعها عنه براحة  ويتمسك بالطهارة. لأن الروح صار له ملجأً، ويزيده قوة، ويطفئ عنه كل الشرور المتحركة عليه، كما يعلمنا بولس الرسول قائلاً: "أميتوا أعضاءكم التى على الأرض، أى الزنى والنجاسة والأوجاع والشهوات الرديئة" (كو3: 5)، وما يتبع ذلك.

والرِّجلان أيضاً إن كانتا ليستا بمستقيمتين ولم يسعيا بتحرُّز كإرادة الله، فالقلب الذى امتلأ بالنعمة يضبطهما ويحركهما بإرادة الروح القدس ليخدما فى الأمور الحسنة. لكى يتكمل الجسد بجميع الحسنات ويرجع تحت سلطان الروح القدس. وأنا أقول إن ذلك الجسد قد اتخذ شيئاً من الجسد (الروحانى) المزمع أن يقوم فى قيامة الصديقين.

وما قلنا هو من أجل أوجاع النفس التى امتزجت مع الجسد وهى تُحركه إلى الميل والانجذاب نحو الأوجاع الشريرة بخدمتها فى جميع الأعضاء. ومن ناحية أخرى أقول إن للنفس أيضاً حركات أخرى تخصها، وأوجاع مختلفة غير أوجاع الجسد، نريد أن نعرفكم بها. وهى: كبرياء، تعيير الناس، غضب، ضعف القلب، عدم الانضباط، وبقية الآلام. فإن سلمت ذاتها للرب بكل قوتها، فإن الله الصالح يعطيها التوبة الحقيقية، ويُظهر لها هذه الأوجاع واحدة واحدة لكى تحيد عنها، ولا تقوى عليها حركات العدو من خلال التجارب، لأن قصدهم (أى الشياطين) أن لا تخلص منهم.

فإن دامت النفس على الصبر والاستماع الحسن للروح القدس الذى يجتذبها للتوبة، فإن الخالق الرؤوف يتحنن علي تعبها وعلى أتعاب الجسد التى هى: كثرة الصوم، والسهر الكثير، والهذيذ فى كتب الله، والصلاة بغير فتور، والخدمة لجميع الناس بطهارة القلب ومسكنة الروح. فإذا دامت فى هذه كلها، فإن الرب الصالح ينظر إليها وينجيها من جميع التجارب، برحمته ويرحمها، لأنه محب البشر، ويحق له التسبيح والتمجيد مع أبيه الصالح والروح القدس الآن وكل آوان إلى دهر الدهور آمين.

[1] أى السيرة الرهبانية

 
 

الرسالة الثانية 

1ـ أنطونيوس يكتب لأولاده الأحباء بالرب، ويهديهم السلام.

أيها الأحباء فى الرب، إن الله لم يفتقد خليقته مرة واحدة فقط، بل فى كل وقت من بداية العالم إلى نهايته. فكل من يطلب الرب باجتهاد ومحبة ويسمع تعاليمه، فإنه يكون معه ويعطيه الروح القدس.

وحيث أن الطبائع الناطقة المشتركة مع الأجساد قد ضعفت وتغيرت بسبب حركات النفس وماتت، فلم تستطع أن تفكر فى خلقتها الأولى بل "صارت كالبهيمة" (يه 10)، وخدمت (اى عبدت) المخلوقات دون الخالق" (رو1: 25)، فقد افتقد خالق الكل ـ بقوة صلاحه ـ خليقته بنواميسه المحيية. والذين استحقوا هذه النعمة، وسعوا بحسب الناموس بكل قوتهم ونيتهم، فقبلوا روح البنوة وتعلموا من الروح القدس، فاستطاعوا أن يسجدوا للخالق "كما يجب" (يو4: 24). وكقول الرسول بولس إن هؤلاء الذين ثبتت لهم الشهادة بإيمانهم "لم ينالوا الوعد لأن الله قدم النظر فى منفعتنا نحن لكى لا يكملوا بدوننا" (عب1: 39ـ 40).

2ـ فلأجل محبته العظيمة ـ محبته العظيمة ـ إذ هو إله الكل ـ أراد أن يفتقد ضعفنا؛ فأقام موسى مشرعاً للناموس وأعطانا الناموس على يديه، فوضع لنا أساس البيت الحقيقى الذى هو الكنيسة الناطقة الواحدة، وبمشيئته دبر أن يرد الخليقة إلى خلقتها الأولى. فبنى موسى البيت ولم يكمله بل مضى وتركه. فأقام الله بعده جماعة الأنبياء بهذا الروح الواحد، فبنوا هم أيضاً على الأساس الذى وضعه موسى ولم يكملوا بل مضوا وتركوه. ثم إن آباءنا الروحانين لما نظروا هذا المرض ليس له شفاء، علموا أن لا أحد من هذه الخليقة يقدر أن يشفيه ما خلا وحيد الآب وحده، الذى هو صورة أزليته، الذى به كانت كل الخليقة التى هى مثاله، وتحققوا أنه هو المخلص والطبيب. فطلبوا باجتهاد من أجلنا نحن لأننا شركاؤهم فى الأعضاء، قائلين: "أليس ترياق فى جلعاد، ولا طبيب؟ لماذا لم يأت شفاء ابنة شعبى؟" (ار8: 22)، "أُعطينا أدويتنا فلم نُشف، فالآن نهرب منها" (ار51: 9). لكن الله الكلمة ــ بمحبته غير المدركة ـ أتى إلينا كقول أنبيائه الأطهار: "يا ابن البشر اتخذ لك آلة السبى" (حز12: 3). وهو الكامل فى صورة الله، ولم يختطف ذلك اختطافاً أن يكون معادلاً لله، لكنه اتضع وأخذ شكل العبد، وتشبه بنا نحن البشر، ما خلا الخطية (عب4: 15)، إلى حد موت الصليب. فرفعه الله بالأكثر وأعطاه اسماً أعظم من جميع الأسماء، لكى تجثو باسم يسوع كل ركبة مما فى السماء وعلى الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع هو الرب ومجد الله الآب (فى2: 16 ـ 11).

 
   
 

الرسالة السادسة

1ـ أنطونيوس يهدى السلام إلى أولاده الأحباء المقيمين بالفيوم وأعمالها وجميع من يتبعهم، وكل الذين يتقدمون للرب بكل قلوبهم.

سلامى لكم بأجمعكم من صغيركم إلى كبيركم، رجلاً كان أم إمرأة، الذين أنتم ابلحقيقة إسرائيليون.

إنكم قد نلتم الطوبى المغبوطة بحلول النعمة فيكم. لكن ينبغى لكم أن لا تتوانوا فى الحرب من أجل الرب، الذى افتقدكم مشرقاً من العلاء حتى تصيروا له ذبيحة طاهرة مقدسة.

2ـ إننا نعلم كيف سقطت الطبيعة الجوهرية من علوها إلى قعر الفضيحة والذلة، وكيف افتقدها الإله الرحوم بناموسه، على يدى موسى والأنبياء. وفى الآخر كان ذلك بابنه الوحيد، الذى هو رئيس أحبارنا العظيم وطبيبنا الحقيقى الذى يمكنه شفاء أوجاعنا. فاتخذ جسدنا وأسلم ذاته عنا وعن خطايانا.

3ـ فهو من أجل جهلنا، اتخذ شكل الجهل، ومن أجل ضعفنا أخذ شكل الضعف، ومن أجل مسكنتنا أخذ شكل المسكنة، ومن أجل موتنا ذاق الموت. هذه كلها صبر عليها من أجلنا. لذلك يجب علينا أن نجاهد. بمقتضى الجهاد، لكى يُسر بنا جميع القديسين الذين يطلبون عنا فى وقت توانينا، ويفرح الزارع والحاصد معاً.

4ـ ويجب عليكم، يا أولادى الأحباء، أن تعلموا ما أنا فيه من الألم العظيم بسببكم؛ لأنى أنظر إلى أتعاب القديسين عنكم، وتنهدهم وطلبتهم التى يقدمونها لأجلكم كل حين أمام الله. فاحرصوا أن تماثلوهم؛ لأنهم نظروا فى تدابير خالقهم بتجسده العجيب وأتعابه لخلاصنا، وأيضاً فى غباوة العدو الذى يطلب كل حين هلاكنا فى الجحيم، الذى هو نصيبه مع جنده، لأنهم دائماً يطلبون بهذا الهلاك العظيم.

فأطلب إليكم يا أولادى الأحباء، أن تفهموا هذا وتنظروا فى تدابير خالقنا وافتقاده لنا بالبشارة الظاهرة والخفية. لأننا إذ كنا نحن المدعويين ناطقين (أى عاقلين)، صرنا كغير الناطقين، لميلنا مع هوى العدو وصانع الشر وأب الكذب.

وأريدكم أن تعلموا كم هى ربوات الملائكة، وكم هى ربوات صنائع الشياطين، وأنواعها التى لا تُحصى. إنهم لما علموا أننا قد علمنا بأوجاعنا وفضيحتنا، وأننا نجتهد فى الهروب من أعمالهم الرديئة العاملة فينا، وليس هذا فقط، بل ولا نسمع لمشوراتهم الشريرة التى يلقونعا فينا، أخذوا يعملون أعمالهم بهزء. وهم يعلمون أن موهبة خالقهم صارت لهم هنا موتاً، وقد قُضى عليهم أن يُبعدوا ويصيروا ميراثاً للجحيم من أجل غفلتهم وكثرة خبثهم.

5ـ ولأجل هذا يا أولادى الأحباء، لست أمل من الطلبة عنكم فى الليل والنهار، لكى يفتح الرب أعين قلوبكم لتنظروا كثرة وعظم مكر الشياطين وشرهم الذى يجلبونه علينا كل يوم، وأن يعطيكم قلباً مستيقظاً وروح إفراز، لكى تستطيعوا أن ترفعوا ذواتكم لله ذبيحة حية مقدسة، وتتحرزوا من حسد الشياطين لكم فى كل الأوقات، ومن كل مشوراتهم الردئية، ومضاداتهم الخفية وشرهم المستور، وأرواحهم المضلة وأفكار تجديفهم، وكل ما يقولونه فينا فى كل وقت من ضعف الإيمان وسهو القلب، والاضطرابات الدقيقة التى يأتون بها كل يوم مع حزن القلب، وغضبهم ونميمتهم التى يلقونها فينا لكى ينم بعضنا على بعض، ونزكى ذواتنا وحدنا وندين غيرنا، ويشتم بعضنا بعضاً، ونتكلم بلسان حلو والمرارة فى قلوبنا، وندين الظاهر من غيرنا بينما اللص داخل ذواتنا، ونحارب ونقاوم بعضنا بعضاً لنقيم كلمتنا ونظهر مكرمين. كذلك هم يدفعوننا إلى أعمال أخرى لا نقوى عليها ويصرفوننا عما هو لفائدتنا. وهكذا تجدهم يُضحكوننا وقت البكاء ويُبكوننا فى وقت الفرح؛ وهم فى كل حين يقصدون إحادتنا عن الطريق المستقيم، لكى يستعبدونا بطغيانهم. وليس لى الآن وقت لكى أتكلم عن بقية شرورهم واحدة فواحدة؛ غير إننى أقول إنه إذا امتلأت قلوبنا من مثل هذه الشرور، تصير لنا كالطعام، حينئذ يعظم الشر فينا ويتأصل، وتكون لنا عقوبة رديئة.

فلهذا يجب علينا أن لا نمل من الطلبة إلى صلاح الآب، لتأتى معونته وتعضدنا فى جميع أعمالنا. لأن هذه الشرور المتعددة هى كائنة (وتقود) إلى هلاكنا، وبيتنا مملوء حرباً.

6ـ وأنا أقول لكم يا أولادى الأحباء، إن كل إنسان يتلذذ بأفكاره فهو يسقط بإرادته، لأنه يفرح بما يُلقى فيه من تلك الأشياء، ويظنها أسراراً عظيمة، ويزكى ذاته وحده فيما يصنعه، ويكون مسكناً للروح الشرير الذى يشير عليه بالشر، ويمتلئ جسده من الأسرار المرذولة الخفية. فالذى يكون هكذا، فإن أوجاع الشياطين تملكه طالما أنه لم يُلقهم عنه.

فيجب علينا أن نعرف فخاخ الشياطين وحيلهم ونحيد عنها ونهرب منها. لأن الآثام والخطايا التى من الشياطين ليست ظاهرة ولا جسدانية؛ لأن ليست لهم أجساد حتى يروا، لكى نصير نحن أجساداً لهم حين تقبل نفوسنا منهم أفكار الظلمة. وعند قبولها منهم يصيرونها ظاهرة فى الجسد.

فاحرصوا يا أولادى الأحباء، أن لا تجعلوا لهم فيكم موضعاً، لئلا يأتى غضب الرب علينا، فيفرحون ويستهزءون بنا وينصرفون. فلا تطرحوا عنكم كلامى؛ فإنهم يعلمون أن حياتنا هى من بعضنا بعض. لأن من هو الذى رأى الله قط فأمسكه لئلا يبعد عنه ويفرح ويخلصه من مضادة هذا الجسد الثقيل؟ أو رأى الشيطان جسدياً واقفاً قبالته فيهرب منه؟ بل إن الشياطين كائنون فى الخفاء، ونحن نُظهرهم بأعمالنا.

7ـ وجميع هؤلاء هم جوهر واحد عقلى، لكنهم لما بعدوا من الله صارت لهم هذه الأسماء المختلفة من أجل أعمالهم المتباينة، وثبتت عليهم كثرتها لكثرة شرورهم. وهذه الأسماء هى: شياطين، أبالسة، جن أرواح شريرة، أنجاس، كفرة، أراخنة هذا العالم المظلم، وأسماء أخرى كثيرة مثل هذه.

أما القوات السمائية فأسماؤهم: رؤساء (ملائكة)، ملائكة، كراسى، أرباب، سلاطين، شاروبيم، ساروفيم. وقد ثبتت لهم هذه الأسماء لأنهم حفظوا إرادة خالقهم.

أما الذين أبغضوا ثقل هذا الجسد الذى نحن لا بسوه، وقد طرحوه عنهم، فمنهم قوم دُعوا رؤساء آباء، وبعض أنبياء، ثم ملوكاً وكهنة وحكاماً ورسلاً. وهذه الأسماء صارت لهم، رجالاً كانوا أم نساء، من أجل أعمالهم المختلفة، وميلهم إلى الخير، وأسباب أخرى كثيرة مثل هذه. إلا أنهم جميعاً من مبدأ واحد وجوهر واحد. ولأجل هذا فمن يخطئ إلى قريبه فإنما يخطئ إلى ذاته، وكل من يصنع شراً بقريبه أو من يساويه فى الحال، فإنما يصنعه بذات نفسه.

فمن هو الذى استطاع أن يوصِّـل إلى الله تعباً أو راحة، أو يخدمه كما ينبغى، أو يسبحه كما يجب له، أو يكرمه حق كرامته، أو يرفعه كاستحقاقه؟ فهذا ليس بمقدورنا بسبب ثقل أوجاع هذا الجسد علينا. فينبغى لنا، إذ قد علمنا هذا، أن ننبه الله الساكن فينا بأعمالنا وسرورنا وتراؤفنا على بعضنا البعض؛ ولا نحب ذواتنا وحدها حتى لا نصير من نصيب الشرير. بل لنعرف ذواتنا؛ لأن من يعرف ذاته فهو يعرف أيضاً كل المخلوقات التى ابتدعها الله من العدم إلى الوجود. ويعرف أن الطبيعة العقلية الباقية هى مخفية فى هذا الجسد الذى ينحل، لتُرى أفعالها فيه وبه. والذى عرف هذا يستطيع أن يحب الله وحده؛ والذى يحب الرب يحب الكل.

8ـ فيا أولادى الأحباء، لا تكلوا ولا تملوا من المحبة بعضكم لبعض، بل اجعلوا هذا الجسد الذى أنتم لابسوه مجمرة ترفعون فيها جميع أفكاركم ومشوراتكم الردئية وتضعونها أمام الرب ليرفع قلوبكم إليه. اطلبوا منه بكل قوة العقل أن ينعم عليكم بإتيان ناره غير الهيولانية من العلاء إليكم، لتحرق كل ما فى تلك المجمرة وتطهرها. فيخاف كهنة البعل المضادون ويهربون من أمامكم كهروبهم أمام إيليا النبى (1مل18: 38ـ 40)، وحينئذ تنظرون أثر إنسان طالعاً بالماء من الينبوع الإلهى ويمطر لكم المطر الروحانى الذى لروح البارقليط. فإذا نلتم، يا أولادى، هذه المواهب الفاضلة، لا تظنوا أنها من أعمالكم، بل هى قوة مقدسة مشتركة معكم فى جميع أعمالكم.

فأنا أطلب إليكم أن تجتهدوا وتداوموا على أعمالكم الحسنة، ليسر بكم كافة القديسين وروحى أنا المسكين، لأننا جميعاً مخلوقون من مبدأ واحد وجوهر واحد عقلى غير مرئى.

9ـ فمن عرف ذاته يعلم أنه جوهر لا يموت، وأن ربنا يسوع المسيح هو العقل الحقيقى الذى للآب، الذى منه تحقيق جميع الطبيعة الناطقة التى خُلقت كشبه صورته. لأنه هو رأس الجسد ورأس الكنيسة، كما يقول الرسول بولس (كو1: 18)؛ ولهذا نحن جميعاً أعضاء بعضنا بعض، وجسد واحد للمسيح (1كو12: 27). "فلا تستطيع الرأس أن تقول للرجلين: لا حاجة لى بكما، بل إذا تألم عضو واحد، فجميع الأعضاء تتألم معه" (1كو12: 21، 26)، كما قال الرسول أيضاً: فلأجل هذا يجب علينا بالأكثر أن نحفظ محبة بعضنا بعض. فالذى يحب أخاه يحب الله (1يو1: 24)، والذى يحب الله يحب نفسه، كما يقول الرسول يوحنا.

10ـ إننى أطلب إليكم، يا أولادى الأحباء، أن تعلموا أيضاً أننا قد خُلقنا ذوى سلطة على ذواتنا، من أجل ذلك تضادنا أرواح الخبث المحيطة بنا. لكن اعلموا ما (هو) مكتوب فى المزمور: "ملاك الرب يعسكر حول اتقيائه، ومن جميع أحزانهم يخلصهم" (مز33: 8).

11ـ وأريد أيضاً أن تعلموا أن كل الذين ابتعدوا عن الفضيلة، قد كمل فيهم غش الشياطين وتم عليهم المكتوب أنهم بنون لإبليس. لأن الشيطان سقط من رتبته السمائية لأجل كبريائه، وصار دائماً يريد أن يُسقط كل الذين يتقدمون للرب بكل قلوبهم بهذه الصفة التى سقط هو بها، أى العظمة ومحبة المجد الباطل. وبهما صارت الشياطين تحاربنا، وتظن أنها تفرقنا من الله بهما وبغيرهما. ولأنهم يعلمون أيضاً أن كل من يحب أخاه فهو يحب الله، فلعداوتهم للفضيلة وجنونهم، يُلقون فى قلوبنا أن نبغض بعضنا بعضاً، حتى الواحد منا لا يشتهى أن ينظر أخاه أو يكلمه كلمة واحدة.

لأجل ذلك، يا أولادى الأحباء، أنا أُعلمكم أن كثيرين بالحقيقة قد تعبوا فى الفضيلة غاية التعب، ولعدم إفرازهم قتلوا أنفسهم. وأنا عارف أن هذا ليس بعجيب، لأنكم إن تكاسلتم عن العمل قبل إحكامكم الفضائل فى ذواتكم، تسقطون فى هذا المرض الشيطانى الذى هو عدم الإفراز. وتظنون أنكم قد اقتربتم من الله وحصلتم على النور، بينما أنتم حقاً فى الظلمة كائنون.

فيا أولادى الأحباء، ما الذى أحوج ربنا يسوع المسيح حتى شد وسطه بمنديل وتعرى وصب ماء فى مغسلة وغسل أرجل الذين هم دونه (يو13: 4، 5)، إلا أنه أراد أن يعلمنا الاتضاع، فأظهره لنا بهذا المثال الذى صنعه؟

فكل الذين يريدون الرجوع إلى رتبتهم الأولى لا يمكنهم ذلك إلا بالاتضاع. لأنه من البدء كانت حركة الكبرياء هى التى أسقطت (صاحبها) من السماء. فإذا لم يكن فى الإنسان الاتضاع الكثير بكل القلب، وبكل النية، وبكل الروح، وبكل النفس، وبكل الجسد، فلا يرث ملكوت الله كما هو مكتوب (1كو6: 10، غلا5: 21، أف5: 5).

12ـ بالحقيقة، يا أولادى الأحباء بالرب، إننى أطلب ليلاً ونهاراً من خالقى، الذى روحى بيده، أن يُنير عيون قلوبكم لتعلموا أولاً محبتى لكم، وبعد ذلك تنظرون خزيكم وتعرفونه. لأن من عرف خزيه فذاك هو الذى يطلب المجد المختار الحقيقى، والذى عرف موته عرف حياته الأبدية.

وإننى أخاف عليكم، يا أولادى الأحباء، أن يُدرككم الغلاء والفقر فى الطريق المؤدية إلى الموضع الذى يمكنكم أن تنالوا فيه الغنى.

إننى أشتهى أن أنظركم ههنا بالجسد، لكنى أنتظر بالأحرى ذلك الدهر الذى ليس فيه حزن ولا كآبة ولا تنهد، بل سرور وفرح لمستحقيه جميعاً، وأن نجتمع هناك عن قريب وأراكم.

وبعد، فإن لى كلاماً كثيراً أقوله لكم، ولكن ليس هذا وقته، بل بالأحرى الآن وقت أهديكم فيه كل واحد باسمه، يا أولادى الأحباء، السلام بالرب الذى له التسبيح من الآن وإلى الأبد. آمين.

 
 

الرسالة السابعة 

1ـ إننى أعرف "نعمة ربنا يسوع المسيح الذى تمسكن من أجلنا، وهو الغنى، لكى نستغنى نحن بمسكنته" (2كو8: 9)، ونتحرر بخضوعه، ونتقوى بضعفه، ونتحكم بالمستجهل من أمره، ونقوم بموته، ونصرخ مع الرسول قائلين: "إن (كنا) قد عرفناه بالجسد، فلسنا الآن نعرفه كذلك" (2كو5: 16).

 
 

الرسالة الثامنة

1ـ أيها الأحباء فى الرب، أكتب إليكم مثل الأبناء الأحباء عند آبائهم. لأن الأبناء حسب الجسد، إذا ما تأملوا آبائهم ووافقوهم، فإن الآباء يحبونهم من كل قلوبهم ويكرمونهم غاية الإكرام، اكثر من أبنائهم غير المطيعين لهم. وإذا اقتبلوا شيئاً حسناً، ادخروه للأولاد الموافقين لهم والمتشبهين بهم. فإذا كان الآباء الجسدانيون يصنعون هكذا، فكم بالأحرى آباؤنا الروحانيون يريدون أن يعطوا الكرامات لأولادهم الموافقين لهم، المتشبهين بهم.

أما أنتم يا أحبائى فى الرب، الذين أحبهم من كل قلبى، فإننى أشتهى أن أكون عندكم كل حين وأنظركم وأبارك عليكم، لأن تعاهدكم لى وتشبهكم بى ورجوعكم إلى الله؛ كل ذلك أنظره مستقيماً.

لقد حللتم فى قلبى (2كو7: 3) بكل سبب. ومن الآن أطلب من إلهى لأجلكم ليلاً ونهاراً لكى يعطيكم مواهبه التى أعطانيها، بنعمته فقط لا باستحقاق فىِّ. فهذا هو الغنى العظيم الذى أعطانيه ربنا، وأنا أسأله أن يعطيه لكم أيضاً. وهذا غاية شهوتى وطلبتى دائماً، الليل والنهار، أن تكونوا معى فى الموضع الذى أنا فيه عند انتقالى من هذا الجسد

 
 

Back