عظات
القديس مقاريوس الكبير

 

العظة الثلاثون
الولادة من الروح القدس
 

إن النفس التي تريد الدخول إلى ملكوت الله ، ينبغي أن تُولد من الروح القدس. وكيفية تحقيق ذلك.

فاعلية كلمة الله :

          1 ـ أولئك الذين يسمعون الكلمة يجب عليهم أن يعطوا برهاناً على عمل الكلمة وفعلها في نفوسهم. فكلمة الله ليست فارغة بل لها عملها وفعلها الخاص في النفس. لهذا السبب تُسمى الكلمة أحياناً "عمل أو صنع" وذلك نظراً "للعمل" الذي توجده في السامعين. فليت الرب ينعم بعمل الحق في السامعين لكيما توجد الكلمة مثمرة فيهم. فكما أن الظل يسير أمام الجسد، ومع ذلك فالظل يُظهر الجسد، بينما الجسد نفسه هو الحقيقة وليس الظل، هكذا الكلمة هي مثل ظل حق المسيح. ولكن الكلمة تسير قدام الحق (فالكلمة تُظهر حقيقة المسيح).

الولادة الجسدية والولادة من الروح :

          إن الآباء الذين على الأرض يلدون أولاداً من طبيعتهم، من جسدهم ونفسهم وبعد ولادتهم يربونهم بعناية واجتهاد لأنهم أولادهم، إلى أن يصيروا رجالاً كاملين، وخلفاءً ووراثين لهم. فإن الهدف من كل عناية الوالدين منذ البداية هو أن يكون لهم أولاداً وورثة، فإذا لم يلدوا أولاداً يكون عندهم حزن وغمّ عظيم، أما إذا صار لهم أولاد فإنه يصير لهم فرح عظيم. وأيضاً فإن أقرباءهم وجيرانهم يفرحون كذلك معهم.

          2 ـ وبنفس الطريقة فإن ربنا يسوع المسيح إذ اهتم بخلاص البشر استخدم منذ البداية كل تدبير عنايته بواسطة الآباء، والبطاركة والناموس والأنبياء، وفي النهاية جاء هو بنفسه واستهان بعار الصليب واحتمل الموت. وكان كل جهده وتعبه هذا وعنايته إنما من أجل أن يلد من ذاته، ومن طبيعته أولاداً بالروح، إذ سُرّ بأنهم يجب أن يولدوا من الروح من فوق، أي من لاهوته. وكما أن أولئك الآباء الذين لا يلدون أولاداً يحزنون، كذلك فإن الرب الذي أحب جنس البشر لأنهم على صورته، أراد أن يلدهم من زرع لاهوته الخاص، ولذلك فإن أي واحد منهم يريد أن يأتي إلى هذه الولادة لكي يُولد من بطن روح اللاهوت، فإن حزن المسيح يكون عظيماً بعد كل الآلام التي عاناها لأجلهم واحتملها كثيراً لكي يخلصهم.

          3 ـ لأن الرب يريد أن ينال كل الناس امتياز هذه الولادة. فهو مات لأجل الكل ودعا الكل إلى الحياة. ولكن الحياة هي الولادة من فوق من الله وبدون هذه الولادة لا تستطيع النفس أن تحيا. كما يقول الرب " إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو3:3).

          وهكذا، فمن الناحية الأخرى، فإن كل الذين يؤمنون بالرب ويأتون ويقبلون امتياز هذه الولادة، فإنهم يكونون سبب فرح وسرور عظيم في السماء لوالديهم الذين ولدوهم، وكل الملائكة والقوات المقدسة أيضاً تفرح بالنفس التي تُولد من الروح وتصير هي نفسها روحاً.

          فإن هذا الجسد هو مثال ومشابه للنفس، والنفس هي صورة الروح، وكما أن الجسد بدون النفس ميت، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً بالمرة، كذلك فإن بدون النفس السماوية ـ أي بدون الروح الإلهي تكون النفس ميتة عن الملكوت ولا قدرة لها على أن تعمل شيئاً من أمور الله بدون الروح.

رسم صورة المسيح في النفس بالتفرّس فيه دائماً :

          4 ـ كما أن الرسام يتفرّس في وجه الملك أولاً ثم بعد ذلك يرسمه، وحينما يكون وجه الملك متجهاً نحو الرسام الواقف أمامه لكي يرسمه فحينئذٍ يرسم الصورة بسهوله وتكون حسنة جداً، ولكن إذا حوّل الملك وجهه بعيداً لا يستطيع الرسام أن يرسم، لأن الوجه ليس في مواجهته ، كذلك يفعل المسيح ـ الفنان الصالح ـ في أولئك الذين يؤمنون به ويتطلعون إليه ويُثبّتون نظرهم فيه دائماً . فإنه سرعان ما يرسم إنساناً سماوياً على صورته. فمن روحه ومن جوهر النور نفسه ـ النور غير الموصوف ـ يرسم صورة سماوية، وينعم على النفس بعريسها الصالح الذي يفيض بالنعمة والجمال، فإن كان الإنسان لا ينظر إليه ويتفرس فيه دائماً، ويغفل كل شيء آخر، فإن الرب لا يرسم صورته بواسطة نوره الخاص. لذلك ينبغي أن ننظر إليه ونتفرس فيه، ونؤمن به ونحبه، ونرذل كل شيء غيره، ونأتي أمامه لكيما يرسم صورته السماوية، ويرسلها إلى داخل نفوسنا، وهكذا إذ نلبس المسيح، فإننا ننال الحياة الأبدية ونحصل على يقين تام ـ هنا ومنذ الآن ـ وندخل إلى الراحة.

          5 ـ وكما أن العملة الذهبية إن لم تُطبع عليها صورة الملك لا يتم التعامل بها في السوق، ولا تُخزن في الخزانة الملكية، بل تُطرح خارجاً، كذلك النفس إن لم تحصل على صورة الروح السماوي في النور الذي لا يُنطق به، أي لن ينطبع عليها المسيح نفسه، لا تكون لائقة للخزائن السماوية، بل يطرحها جانباً تجار الملكوت المهرة، الذين هم الرسل. فإن ذلك الذي دُعي ولم يكن لابساً لباس العرس طُرد خارجاً كغريب إلى الظلمة الخارجية، لكونه لم يكن لابساً الصورة السماوية. هذه هي علامة الرب وختمه المطبوع على النفوس ـ أي روح النور الذي لا يُنطق به، وكما أن الإنسان الميت هو بلا نفع ولا فائدة لأهل المكان، لذلك فإنهم يحملونه خارج المدينة ويدفنونه، هكذا النفس التي لا تحمل الصورة السماوية، صورة النور الإلهي التي هي حياة النفس، فإن هذه النفس تُطرد خارجاً، لأن النفس الميتة هي بلا فائدة لمدينة القديسين، لأنها لا تحمل الروح الإلهي المنير. فكما أنه في هذا العالم، تكون النفس هي حياة الجسد هكذا ففي العالم الأبدي السماوي فإن الروح الإلهي هو حياة النفس. وبدون روح الحياة فإن النفس تكون ميتة ولا نفع فيها لسكان العالم السماوي.

طلب الروح القدس حياة النفس :

          6 ـ لذلك من يريد أن يؤمن بالرب ويأتي إليه ينبغي أن يطلب ويتوسل لأجل نوال الروح الإلهي هنا على الأرض، فإن ذلك الروح هو حياة النفس ولهذا السبب جاء الرب إلى العالم، لكي ما يعطى الحياة للنفس هنا على الأرض أي يعطيها روحه. لذلك يقول " مادام لكم النور آمنوا بالنور، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل" (يو 36:12، 4:9). لذلك فأي إنسان لا يطلب الحياة بينما هو على الأرض ولا ينال حياة لنفسه التي هي نور الروح الإلهي، فإنه حينما يخرج من الجسد يُنقل بعيداً إلى مناطق الظلمة التي على اليسار ولا يدخل ملكوت السموات، إذ تكون نهايته في الجحيم مع إبليس وملائكته (مت41:25).

          وكما أن الذهب والفضة إذا أُلقيا في النار يصيران أكثر نقاوة وصفاء ولا يلحقهما ضرر، (مثلما يحدث للخشب أو القش)، بل هما أي الذهب والفضة المحميان بالنار يلتهمان كل ما يقترب منهما، إذ يصيران هما أيضاً ناراً ـ هكذا النفس فإنها بطول إقامتها في نار الروح وفي النور الإلهي لا يصيبها أذى من أحد الأرواح الشريرة بل إن اقترب أحدها منها يحترق بنار الروح السماوية.

          وكما أن الطير إذا طار عالياً لا يقلق ولا يخاف من الصيادين أو الوحوش المفترسة لأنه في العلو يأمن منهم جميعاً، كذلك النفس تنال أجنحة الروح وتطير إلى الأعالي السماوية فإنها تكون فوق كل شيء، وتهزأ بجميع أعدائها الذين هم تحتها.

          7ـ وفي اليوم الذي شق فيه موسى البحر، عبر إسرائيل حسب الجسد، من تحته، وأما هؤلاء (المسيحيون أبناء العهد الجديد) فلكونهم أبناء الله فإنهم يسيرون فوق بحر المرارة، بحر القوات الشريرة. إذ إن جسدهم ونفسهم قد صارت هي بيت الله.

آدم والإنسان الجريح والمائت:

          وفي ذلك اليوم الذي سقط فيه آدم جاء الله ماشياً في الجنة وبكى حينما رأى آدم وكأنه قال " بعد هذه الخيرات التي أعطيتك، ما هذه الشرور التي ارتكبت، وبعد كل المجد أي عار أنت تلبسه الآن، كم أنت مظلم الآن وقد صار منظرك قبيحاً، وأي فساد أنت فيه. وبعد هذا النور أي ظلام قد غطاك!" ...

          وحينما سقط آدم ومات (بانفصاله عن) الله، حزن عليه خالقه، والملائكة وكل القوات والسموات والأرض وكل المخلوقات ناحت على موته وسقوطه، لأنهم رأوا ذلك الذي أُعطى لهم ليكون ملكاً عليهم، قد صار عبداً لقوة معادية شريرة. ولذلك اكتسى آدم بالظلمة في نفسه، ظلمة مرة وشريرة لأنه صار خاضعاً لرئيس الظلمة. هذا هو الذي يشير إليه ذاك الذي جرحه اللصوص، "وتركوه بين حي وميت بينما كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا" (لو30:10).

          8 ـ ولعازر أيضاً، الذي أقامه الرب، الذي أنتن حتى لم يقدر أحد أن يقترب من القبر، كان رمزاً إلى آدم، الذي صارت نفسه في عفونة، وامتلأت سواداً وظلاماً.

          أما أنت، فحينما تسمع عن آدم، وعن الإنسان الذي جرحه اللصوص وعن لعازر، فلا تدع عقلك يذهب بعيداً إلى الجبال، بل تعال إلى باطنك إلى داخل نفسك، لأنك أنت نفسك تحمل نفس الجروح، وفيك نفس العفونة، ونفس الظلام. فنحن جميعاً أبناء آدم ومن نفس الجنس المُظلم، وجميعاً مشتركون في نفس النتانة. فالداء الذي عانى منه آدم، نعانى منه نحن جميعاً الذين من زرع آدم. لأن الداء الذي حلّ بنا هو الذي يقول عنه إشعياء " لا يوجد إلاّ جراح وقروح وضربات ملتهبة لا تُشفي، ولا يمكن أن تُعصب، أو تُداوى أو تلين بالزيت" (إش6:1س).

          لذلك فالجرح الذي جُرحنا به لم يكن له علاج، والرب وحده هو الذي استطاع أن يشفيه. لهذا السبب جاء الرب بنفسه، لأنه لم يستطع أحد من الأقدمين، ولا الناموس نفسه ولا الأنبياء، أن يقوموا بشفاء هذا الجرح. بل الرب وحده بمجيئه إلينا شفي جرح النفس، ذلك الجرح العديم الشفاء.

قبول المسيح ليدخل ويستريح فينا ونستريح فيه :

          9 ـ فلنقبل إذاً إلهنا وربنا ـ الشافي الحقيقي ـ الذي يستطيع وحده أن يأتي ويشفي نفوسنا، بعد أن تعب وتألم كثيراً جداً لأجلنا. فهو يقرع دائماً أبواب قلوبنا، لكي نفتح له، لكي يدخل إلى داخلنا ويستريح في نفوسنا، ولكي نغسل وندهن قدميه، ولكي يجعل هو إقامته فينا. فالرب ـ في تلك الفقرة من الإنجيل (لو44:7) يوبخ الرجل الذي لم يغسل قدميه. وفي موضع آخر يقول " ها أنا واقف على الباب وأقرع ، إن فتح لي أحد فإني أدخل إليه" (رؤ20:3) فلأجل هذه الغاية احتمل هو آلاماً كثيرة، مقدماً جسده للموت، ليفتدينا من العبودية، لكيما يأتي إلى نفوسنا ويجعل إقامته فيها. فلهذا السبب يقول الرب للذين عن يساره، في يوم الدينونة، والذين يُرسلون إلى جهنم مع الشيطان: " كنت غريباً فلم تأووني، جوعاناً فلم تطعموني عطشاناً فلم تسقوني" (مت43،42:25). فإن طعامه وشرابه وكساءه ومأواه وراحته، هي في نفوسنا، لذلك فإنه دائماً يقرع طالباً الدخول إلينا. فلنقبله إذن وندخله إلى داخل نفوسنا، لأنه هو طعامنا وشرابنا وحياتنا الأبدية، وكل نفس لا تقبله الآن في داخلها وتعطيه راحة، أو بالحرى لا تجد راحة فيه، فليس لها ميراث في ملكوت السموات مع القديسين، ولا تستطيع الدخول إلى المدينة السماوية.

          فلتدخلنا أنت يارب يسوع المسيح إلى ملكوتك، ممجدين أسمك مع الآب والروح القدس إلى الأبد. آمين .

Back