26توت: القديسة أمانة الشهيدة

عن كتاب: نساء شهيدات وعذارى حكيمات إعداد القمص تادرس البراموسى جـ 1

 ولدت هذه القديسة الشريفة النسب فى مدينة أجين بفرنسا ونشأت على تهذيب الأخلاق بمقتضى الآداب المسيحية وذلك لأن والديها كانا مسيحيين فاضلين  فكانوا يقصون عليها سير القديسين والشهداء وكم احتملوا من عذاب وكم صبروا على الآلام والضيقات حباً فى السيد المسيح. فكانا بهذا يعدانها لكى تقبل كل مايأتى عليها من الآم فى مستقبل حياتها.

أما هى فكانت تطيب نفساً بسماع هذه الأخبار وتتعجب بشجاعة هؤلاء القديسين مشتاقة إلى مشاركتهم آلامهم حتى تحظى بمشاركتهم فى أكاليلهم وسعادتهم مع أنها لم تكن قد بلغت عشر سنين أو إثنتى عشر سنة كاملة.

وكان الوالى على البلاد دسيانوس وذلك فى عهد دقلديانوس الجاحد، كان والياً على أسبانيا ولم يعرف فى الولاة أقصى منه على المسيحيين فلم يكن يعرف الرحمة ولا الإنسانية، فنادى فى كل ولاية بالاضطهاد على المسيحيين حسب أمر الملك وذهب هذا الوالى إلى أجين لسكب كأس غضبه على المسيحيين، أما والدا القديسة أمانة فلم يذكر التاريخ هل هربا من الاضطهاد أم توفيا غير أن القديسة البتول الشابة لم تهرب ولم تضطرب مع أن الناس كانوا يحثونها على الهروب لأنها حسبت هذا الهروب إهانة لإيمانها بالرب يسوع الذى قال: "و لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد و لكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس و الجسد كليهما في جهنم." (متى 10: 28)

أخذت أمانة تستعد لهذه الحرب فاختلت فى بيتها وعكفت على الصلاة والصوم والسهر المتواصل، ولشدة محبتها للرب وعزمها القوى فى إتمام وصاياه، أن جاد الله عليها بنعم جزيلة، واستمدت قوة جديدة من العلاء فاشتعل الشوق فى قلبها إلى الاستشهاد حتى كانت تصرخ قائلة: "هلم أيها القساة الظالمين أعداء الإيمان المسيحى وأعداء كل بر مثل الشيطان أبيكم اضرموا نيرانكم واستلوا سيوفكم واستعملوا كل قوتكم وكل آلات تعذيبكم، اطلقوا علىَّ الوحوش الضارية لقد اتكلت على ربى وإلهى يسوع المسيح وقدرته وأزدرى بكل آلهتكم وكل تعذيبكم، أنا اسمى أمانة وسوف أكون أمينة إلى المنتهى لكى ينتصر المسيح وسط النار وفى كل الضيقات لأنه مكتوب أن الرب يحارب عنكم وأنتم تصمتون، فليختبئ من يختبئ وليهرب من يهرب أما أنا فحاشا لى أن أهرب أو أختبئ لكننى أمضى وأقدم نفسى للحاكم ليعرف أن العذاب والموت لا يروعان القلب المسيحى." قالت هذا وفى الحال جاء من يخبرها أنه قد صدر أمر الوالى بإحضارها، فرشمت على وجهها علامة الصليب المقدس وخرجت من بيتها وذهبت إلى الحاكم وهى تردد المزمور: "أيضاً إذا سرت فى وادى ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معى عصاك وعكازك هما يعزياننى." (مزمور 23: 4)

ولما مثلت أمام الوالى اعترفت القديسة أنها مسيحية تعبد الرب يسوع المسيح، فلما رآها دسيانوس الوالى وعرف شرف أصلها سألها عن اسمها فقالت: "أنا اسمي أمانة بالاسم والفعل ومن حداثة سنى أنا متعبدة للسيد المسيح." فظن الوالى أنه يمكن أن ينتصر عليها بسهولة لحداثة سنها، وابتدأ معها بلطف الكلام فمدحها على شرف جنسها وبديع جمالها ووعدها بأموال كثيرة إن أطاعت أمره وسجدت للآلهة، فأجابته القديسة بكل شجاعة قائلة: "إن اعتقادكم بوجود آلهة كثيرة هو ضلال مبين ولا ريب أنه من وسوسة الشيطان أخزاه الله، أما أنا فلا أعرف إلا إلهاً واحداً هو الرب يسوع، له اسجد وإياه أعبد وله تعالى قدمت حياتى وكل مالى ولست أعتبر ما تقدمه لى من هدايا ولا أخشى بما تتوعدنى به من عذاب. إن اسمى أمانة ومن ثم يمكنك أن تقطع خيط حياتى أما إيمانى فليس لك سلطان عليه." فأضرم هذا الكلام نار الغضب فى قلب الوالى، ومن ثم أمر فى الحال بتعذيب القديسة الطاهرة، فأخذها الجند ومدوها على مشواة وأشعلوا النار تحتها فلم تمر دقيقة واحدة حتى التحفت باللهيب كالحديد فى وسط الأتون فرقت قلوب الوثنيين من مشاهدتهم مثل هذه القسوة وتذمروا على الحاكم وقالوا لـه: "من أين لك أن تُعذب فتاة شابة شريفة النسب بديعة الجمال عذاباً مريعاً لمجرد عبادتها لإلهها." أما القديسة أمانة فكانت واقفة فى وسط اللهيب باسطة يديها وقلبها إلى الله شاكرة محبته التى بها أهلها أن تقدم جسدها ذبيحة حية على مذبح الحب والتضحية. فتعجب الحاضرون من هذا المنظر العجيب، فتاة غضة فى وسط النار ولم تحترق، وآمن كثيرون بإله القديسة أمانة وتقدموا معترفين بالرب يسوع الذى له القدرة على خلاص أولاده والذى جعل النار مثل الندى البارد أمام القديسة.

شاع خبر القديسة ليس فى المدينة فقط بل فى الجبال التى فى تلك النواحى أيضاً حيث كان قد هرب الكثيرون من المسيحيين بسبب الاضطهاد ومنهم أسقف المدينة المولود بمدينة أجين ومعروف فيها جداً بسبب صفاته المميزة، وكان قد فر إلى هناك مع كثيرين من رعيته بسبب الاضطهاد فصعد إلى موضع عالى قريب من المدينة فرأى لهيب تلك النار المحيطة بالقديسة الممدودة على المشواة فذهل عقله وجثا على الأرض ثم رفع يديه وعينيه إلى السماء وطلب من الله بكل قلبه أن يعين أمته فى هذه الرحب وينصرها على الأعداء، وفيما هو يصلى رأى حمامة أنقى من الثلج بياضاً حاملة فى منقارها إكليلاً من ذهب متلألئ بحجارة ثمينة كثيرة وضعته على رأس القديسة، فأخذ يتأمل شدة بأس وشجاعة هذه القديسة التى لم تهرب من الاضطهاد كسائر المؤمنين وقارن بين هروبه وبين شجاعة هذه الفتاة الضعيفة فخجل من ضعفه وبكى قائلاً: "أليس إله هذه القديسة هو إلهى فكيف لا أفعل مثلما فعلت هذه الفتاة." وبينما كان يحث نفسه هكذا على الاستشهاد تصور شدة عذاب الشهداء فاستولى عليه الضعف البشرى وأصبح محصوراً بين أمرين، أحدهما شوقه وحبه للموت من أجل السيد المسيح، وثانيهما الخوف الطبيعى فى الإنسان، فأطرق بوجهه إلى الأرض وقال فى نفسه: "كيف وأنا أسقف المدينة وليس لى شجاعة هذه العذراء وماذا أقول لربى و إلهى عندما أقف عرياناً وكشوفاً أمامه وماذا يكون جوابى عندما يقول لى أعطنى حساب وكالتك، يا إلهى ما أقسى هذه الساعة وما أضعفنى أنا الإنسان التراب." فأطرق بوجهه إلى الأرض ثانية وسأل الله تعالى أن يؤهله أن يسفك دمه لأجله ويعطيه القوة والشجاعة لكى يتغلب على كل الصعاب التى أمامه، وطلب من الله أن يعطيه علامة أنه قبل صلواته وأهله لهذا الشرف العظيم الذى لا يستحقه، وفيما هو راجع إلى مغارته وهو متردد فى ذلك سأل الله أن يُخرج عين ماء من الصخرة التى أمامه حتى يتأكد أن الله قبل صلواته وأنه سيظفر بإكليل الشهادة، فضرب الصخرة فتفجر منها ماء ومن ساعتها خرج من المغارة ودخل المدينة وتقدم إلى دوسيانوس الوالى واعترف بالسيد المسيح لـه المجد وقد هرب منه الخوف ولبس قوة من الأعالى فأصبح لا يهاب الموت ولا يخاف السيف.

أما الحاكم فخجل من شجاعة المسيحيين وبدلاً من أن يخفف الاضطهاد عنهم ازداد وثار ثورة عارمة ولا سيما عندما علم أن هذا الرجل هو أسقف المدينة، فأصدر أوامره أن يُعلق الأسقف من يديه ورجليه على أربع نشابات ويمزق جسده بمخالب من حديد ففعل به الجند كما أمرهم الوالى ومزقوا جسده.

أما هو فلم يكن يحتمل فقط بل كان مسروراً مبتهجاً، وكان يبكت الوثنيين على عبادتهم للأوثان، وقد آمن كثيرون من الحاضرين وذهبوا للوقت ليعتمدوا، أما الحاكم الظالم فلما رأى أنه بتعذيب القديس يزداد عدد المسيحيين كف عن ضرب القديس وأرسله إلى السجن وأمر بالقبض على بعض المؤمنين الذين آمنوا لما رأوا الآيات التى يصنعها الله مع القديسين.

فلما دخل الأسقف إلى السجن وجد القديسة أمانة واقفة تصلى داخل السجن فى تمام الصحة بعد بقائها على المشواة عدة ساعات، فامتلأ قلبه سروراً، وجلس الاثنان يتحدثان بعظائم الله وكيف يتمجد الرب فى قديسيه لأنه لم يترك نفسه بلا شاهد، وابتدأ يقص عليها ما رآه وما جرى لـه فى الجبل ومعاملة الله لـه وتشجيعه على الخوض فى طريق الاستشهاد.حكى لـها كيف أنه كان ضعيف الإرادة كإنسان والرب تدخل فى الوقت المناسب، وابتدأ الاثنان يشكران الله على ما صنع معهما ويشجع أحدهما الآخر على المضى قدماً فى طريق الاستشهاد إلى النهاية، وفيما هما هكذا مستعدين لكل ما يأتى عليهما من آلام فى سبيل التمسك بإلههما ولم يرهبوا الموت فى سبيل تحقيق إيمانهما، أتى الجنود إلى السجن وأخذوا القديسة أمانة إلى محفل القضاء، فأخذ الوالى يتحدث فى سبيل نجاتها من هذه العذابات وأظهر لها أنه يشفق عليها وعلى شبابها ويريد لها الخير، ولكن القديسة كانت مشغولة عنه بالصلاة والتضرع إلى الله أن يقرب ساعة رحيلها عن هذا العالم، فاغتاظ الحاكم وثار ثورة عارمة عليها ثم أمر بقطع رأسها، ففرحت بهذا الحكم وشعرت أنها ستنطلق إلى ما كانت تشتهيه وتشتاق نفسها إليه. فأخذها الجند إلى خارج المدينة، فصلت صلاة طويلة لأجل الجنود، ولأجل الوالى الذين اعتبرت أن لهم الفضل فى قرب ساعتها وصلت لأجل العالم والشعب السائر فى الظلمة وظلال الموت لكى يشفق عليهم الله ويقربهم إليه وبعد ذلك قدمت عنقها للسياف ونالت إكليل الشهادة وأسلمت روحها بيد فاديها وتهللت الملائكة بلقائها لتشاركهم فى التسبيح مع جميع القديسين.

بركة صلواته تكون معنا وتحرسنا من كل الفخاخ الشيطانية إلى النفس الأخير.

أما الأب الأسقف فبعد ثلاثة أيام من استشهاد القديسة سمع بخبر استشهادها وفرح جداً أن الرب أكمل جهادها وطلب من الله أن يقرب لـه هذه الساعة، وفيما هو متفكر بهذا إذ بالجند يطلبونه للمثول أمام الوالى، فتهلل ومضى معهم وهو فى غاية السرور، فاستقبله الوالى ببشاشة ظناً منه أنه يردعه ويثنيه عن عزمه الاستشهاد، وبذلك يقدر أن ينتصر على بقية المسيحيين عملاً بالقول المكتوب: "إنى أضرب الراعى فتتبدد خراف الرعية." (متى 26: 31) ، ولما رأى الوالى إصراره على إيمانه ولا سيما بعد استشهاد القديسة أمانة ـ الذى أعطاه دفعة قوية للأمام مستهيناً بكل التعذيب لأنه كان ينظر إلى المجازاة كما قال الكتاب: "كثيرين عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لأنهم كانوا ينظرون إلى الحياة الأفضل." ـ لما رأى الوالى إصراره تفنن فى تعذيب القديس، وعندما لم ير فيه أى خضوع لأوامره، أمر بقطع رأسه. فلما علم القديس شكر الله على هذه النعمة التى لا يستحقها وتقدم الجند وقطعوا رأسه ونال إكليل الشهادة وعيد مع القديسين. بركة هذا القديس وبركة جميع الشهداء والقديسين تكون معنا وليعيننا الرب بصلواتهم ولإلهنا كل المجد والكرامة إلى الأبد أمين.