12 برمهات: القمص بيشوى كامل 

قال مربٍ روحانى: "كلما أراد الله أن ينفذ أمراً أرسل طفلاً وليداً إلى هذا العالم، وحين ينضج هذا الطفل يرسل الله علامة." إنه يعمل دوماً بالعلامات.

 ومن هذا المنطق أرسل الله طفلاً فى 6 ديسمبر سنة 1931م فى بلدة دمنهور بالبحيرة إلى أبويين تقيين من المنوفية. وقد أسمياه "سامى" فتناغم هذا الاسم تماماً مع اسم أبيه "كامل" ثم حين شاء خالقه أن يختاره للكهنوت نال اسم "بيشوى" ومعناه "سامى" وكل من عرف أبانا أدرك إلى أى حد تطابقت شخصيته مع اسمه.

أما العلامة فلقد أعطاها الله بطريقة عجيبة، كانت البابوية القبطية بالإسكندرية فى عام 1957م قد اشترت قطعة أرض على خط الترامواى قرب محطة اسبورتنج لإقامة كنيسة عليها باسم مارجرجس. ولكن المبنى المرغوب فيه ظل لسنوات "سقيفة".

ثم وصل البابا كيرلس السادس إلى السدة المرقسية فى 10مايو 1959م. واعتاد أن يذهب إلى الإسكندرية من وقت لآخر. وفى مساء الأربعاء 18نوفمبر من السنة عينها كان جالساً فى قاعة الاستقبال بالدار البابوية هناك يتحدث إلى كاهن ذو حساسية روحية عميقة هو القمص مينا اسكندر. قال البابا بشفافيته التى عُرف بها: "لن نستطيع البدء فى بناء الكنيسة قبل رسامة كاهن خاص بها." وما كاد ينتهى من القول حتى دخل سامى مستصحباً فصله لمدارس التربية الكنسية لينالوا بركة البابا الكبير. فهتف أبونا مينا لفوره: "ها هو الشاب الذى يصلح لأن يرعى شعب كنيسة مارجرجس." وبعد أسئلة قليلة وضع قداسة البابا الصليب على رأس سامى كامل وهو يقول: "إنها علامة معطاة من الله أن تصبح كاهناً، وسأرسمك الأحد المقبل!"

وأخذ الشاب نفساً طويلاً واستجمع شجاعته وقال: "ولكننى لست متزوجاً!" فقال الأنبا كيرلس: "إن الروح القدس الذى ألهمنى إلى اتخاذ هذا القرار هو يختار لك العروس التى تصلح لك فى خدمتك."

وهكذا حدث أن الروح القدس أرشد سامى كامل إلى أن يطلب يد أنجيل باسيلى، وهى شقيقة لبعض من أبنائه الخدام فى التربية الكنسية. وتمت الشعائر المقدسة للإكليل المبارك مساء الثلاثاء 24 نوفمبر، كما تمت شعائر الرسامة صباح الأربعاء 2 ديسمبر.

 وثبت بالاختيار أن أنجيل هى الأمثل للكاهن بيشوى كما تنبأ البابا كيرلس.

 الآن نرجع لنتعرف على طريق سامى أو العملاق القمص بيشوى كامل

التحق سامى بالمدرسة الابتدائية عندما أصبح فى السابعة من عمره، وقد قضى فيها أربع سنوات، ومنها إلى المرحلة الثانوية لخمس سنوات ـ وقد اختار شعبة العلوم. ثم دخل كلية العلوم بجامعة الإسكندرية حيث نال البكالوريوس بتفوق فى يونيو 1951م. ومع صغر سنه فقد عينته وزارة التربية والتعليم مدرساً للعلوم فى مدرسة الرمل الثانوية للبنين. على أن رغبته فى التعلم جعلته يلتحق بقسم التربية وعلم النفس فحاز فيها الماجستير سنة 1952م وكان ترتيبه الأول.

حين كان فى السابعة عشرة من عمره، وهو ما زال فى الجامعة، بدأ الخدمة فى التربية الكنسية الملحقة بكنيسة السيدة العذراء بمحرم بك. ولكنه كان ضمن الذين يقال عنهم: "ومتى كانت النفوس كباراً تعبت فى مرامها الأجسام." لأنه استمر فى الدراسة حتى بعد أن اشتغل. فالتحق بالقسم العالى لدراسة التربية وعلم النفس مستكملاً دراسته الأولى فيها فنال الدبلوم، وكالمعتاد كان الأول بين الخريجين. وظل عطشاناً إلى المعرفة فحصل على الليسانس فى الفلسفة من كلية الآداب بالإسكندرية سنة 1954م.

 على أن كل هذه الدراسات لم تشبع تطلعاته الداخلية للروحيات. فدخل الكلية الإكليريكية ودأب على الدراسة إلى حد أنه تخرج منها سنة 1956م بتفوق. وفى السنة عينها صار أمين عام الخدمة.

 فى بداية العام الدراسى لسنة 1957م عين مدرساً مساعداً بالمعهد العالى للتربية فى الإسكندرية، وهكذا استمر ينمو فى النعمة والحكمة والقامة عند الله والناس.

ثم حدث فى مساء الأربعاء 18 نوفمبر 1959م أنه استصحب فصله لمدارس التربية الكنسية إلى الدار البابوية لينالوا بركة البابا كيرلس السادس، وما إن قبل يديه حتى فوجئ بأنه سيرسم كاهناً بعد أربعة أيام.. وحين قصد إلى بيت زميله فايز وجورج باسيلى ليطلب من والديهما يد أختهما أنجيل فرحا به فرحاً عظيماً وقالا لأبيهما أن "سامى كامل" ذو نقاء ملائكى. وقد أقيمت الشعائر القدسية التى رفعته إلى القس بيشوى فى صباح الأربعاء 22هاتور ، الموافق 2ديسمبر 1959م وذهب إلى دير السيدة العذراء للسريان حيث قضى الأربعين يوماً المقدسة.

وأبونا بيشوى كامل يعرف الكاهن بأنه شهيد محبة فى كنيسته، شهيد يمنح حياته لخدمة شعبه، يتعب ويعرق، ويجاهد ويتألم ويسير مع كل أحد الميل الثانى برضى وطاعة تحقيقاً لقول الرب "من سخرك ميلاً فاذهب معه اثنين." فالميل الأول كما فسره أبونا بيشوى هو إضطرار بل هو سخرة. أما الميل الثانى فمعطى محبة وفرحاً وخضوعاً للسيد المسيح." لم يعلم ابونا بيشوى بهذا فقط، بل علم وعمل.

بدأ أبونا بيشوى عمله بأن يحول السقيفة التى تسلمها إلى مبنى يليق بأن يكون بيتاً لله. وإيمان أبونا بيشوى كان راسخاً فرفض أن يطلب أى مال لبناء الكنيسة. بل ورفض أن يجعل أى إنسان يمر بطبق على المصلين. مكتفياً بوضع صناديق صغيرة من الخشب فى أنحاء الكنيسة مؤكداً أن فيض الله سيغمرهم. وقد بنى بهذه الطريقة الصامتة

·        كنيسة  مارجرجس باسبورتنج.

·        كنيسة مارجرجس فى الحضرة.

·        كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت بالإبراهيمية.

·        كنيسة الملاك ميخائيل بمصطفى كامل.

·        كنيسة البابا بطرس خاتم الشهداء بسيدى بشر.

·        كنيسة الأنبا أنطونيوس والأنبا بيشوى فى اللبان.

·        كنيسة العذراء والبابا كيرلس عمود الدين فى كليوباترا الحمامات.

كان أبونا بيشوى متيقناً بأن الخدمة الحقيقية هى عمل "الراعى الأعظم" الذى وحده يقود شعبه من خلال الكهنة. وفسر هذا اليقين بأن كلمة كاهن باللغة اليونانية هى "ابريسفيتروس" ومعناها "شفيع" ولذلك كان العمل الأساسى للكاهن هو أن يصلى عن شعبه لأن الصلاة هى القوة الدافعة لكل الأنشطة الكهنوتية.         ولأنه عاش هذه التعاليم بالفعل يوماً بعد يوم فقد امتلأت حياته بالبركة يعمل الله فيها وينجح أعماله.

 كان ابونا بيشوى مشتعلاً بمحبة كنيسته، أحبها لكونها عروس السيد المسيح الذى تيقن من عضويته فيها. ولمحبته للكنيسة وقديسيها كان يضع أيقونة القديس / القديسة يوم تذكاره على حامل فى مكانه وسط الشمامسة وكلما أمكن صحب شعبه لزيارة الدير أو القلاية أو المقصورة التى عاشوا فيها أو رقدوا فيها.

ولقد نبعت كل مواعظه من هذه المحبة المشتعلة: فأكد قوة الروح القدس المنسابة إلى داخلنا من خلال سرى المعمودية والميرون المقدس، وواظب على مطالبة شعبه بتناول سر الإفخارستيا العظيم لكى يصلوا إلى القداسة المسيحية وإذا ما تحدث عن أحد القديسين تكلم عن صداقتهم المستمرة مع الله بصورة كانت تجعل سامعيه يتيقنون بأنه فى زمرتهم.

أما عن أبوته فمن عرفه ولم يعرف معنى الأبوة. فى أحد المرات جاءه رجل فى غاية الفزع وهو يقول: "إلحقنى يا ابونا. فقد خطف فلان (ضابط شرطة) ابنتى وحملها رجاله إلى بيته." فقفز أبونا بسرعة إلى سيارته وذهب على الفور إلى بيت الضابط المذكور. وحين فتحوا له الباب دخل مسرعاً من غرفة إلى غرفة حتى وجد الشابة. فأمسك بيدها وأخذها وخرج. وأصيب أهل البيت بذهول أمام سرعة أبينا فلم يعترضه أحدهم! وأوصل الشابة إلى بيت أبيها.

كان هناك إنسان لم يولد فى الإيمان المسيحى وعندما تقابل مع روح ومحبة أبونا امتلأ قلبه حرارة إلى حد أنه رغب فى الرهبنة. فصحبه أبونا إلى أحد أديرة شيهيت. وبعد عدة أسابيع أراد أن يطمئن عليه.وبينما هو يقود سيارته فى المنطقة البعيدة عن الطريق العام إذا بشيخ رث الثياب يستوقفه ويطلب إليه أن يوصله إلى نقطة معينة. وأركبه أبونا بابتسامته المعهودة، وقبل أن يصل إلى النقطة المطلوبة قال الشيخ: "يكفى إنزلنى هنا، فالمكان قريب وأنا أخرجتك عن طريقك." ولكن أبانا صمم على الاستمرار فى المسير وفتح الشيخ بابا السيارة لينزل فأوقفها أبونا بسرعة ومد يده ليمسك بيد الشيخ وإذ بها مثقوبة بالمسمار وإذ بالشخص يختفى! وفى اليوم التالى جاءه شقيقا الرجل الذى ترهبن وأخبراه بأنهما تربصا له ليقتلاه ولكنهما تراجعا إذ وجدا شخصاً جالساً إلى جانبه.

فى نوفمبر سنة 1969م أوفده البابا كيرلس لكى يقوم بالخدمة فى أمريكا وقبيل سفره رقى إلى درجة القمصية وقد قام برسامته الأنبا مكسيموس مطران القليوبية. وقصد أبونا إلى لوس انجيلوس فى 8 نوفمبر سنة 1969م ووصلها فى عشية عيد كاروزنا مارمرقس، فكان أول قداس إلهى يرفعه بتلك المدينة يوم 9 نوفمبر (30 بابه سنة 1685ش) . ولقد امتلأ قلبه نشوة إذ تيقن من أن الانجيلى الشهيد كان واقفاً إلى جانبه.

وحينما وصل إلى لوس أنجيلوس، لم يكن للأقباط كنيسة. وعلى الفور ألف لجنة هدفها الأول شراء كنيسة أو بناؤها. وبديهى أنه وجد معارضة بحجة أنهم لن يستطيعوا جمع المال اللازم. وبهدوئه ووداعته، وبابتسامته الرقيقة أقنعهم. وبتشجيعه عثروا على كنيسة معروضة للبيع ولكن أصحابها طلبوا مائة ألف دولار ثمناً لها ـ عدا التسجيل والمحامى والسمسار. وتراجع البعض أمام هذا المبلغ. قال أبونا بيشوى: "إن العربون فى جيبى ـ يقصد إيمانه بمعاونة الله ـ وأمامكم أسبوعان." فنفخ العزيمة والحماس فى القلوب إلى حد أنهم جمعوا المبلغ المطلوب قبل الموعد المحدد بيومين. ووضع أبونا الدولارات والشيكات فى حافظة نقوده وذهب مع بعض أعضاء اللجنة إلى البنك لإيداعها فيه. ولكن يالخيبة الأمل! فحين هم باستخراج الحافظة من جيبه لم يجدها! وبدأ بحث محموم داخل البنك وفى الطرق التى ساروا فيها وعند موقف السيارات ـ بحث بلا جدوى! والعجيب أن أبونا ظل واثقاً بأن الله لن يتركهم، وفى منتصف الليلة التى كانوا سيدفعون المبلغ عند صباحها، وهم مازالوا يصلون، إذ بغريب يتقدم إلى أبونا بيشوى وسأله إن كان قد فقد حافظة. ولما أجابه بالإيجاب قدمها له بكل ما فيها! فامتلأ الجميع بهجة. وقالت أنجيل باللغة العربية ـ ظناً منها أن الغريب لا يعرفها ـ "اسأله يا أبونا إن كان يأخذ مكافأة." أجابهما الغريب بالنفى إذ اتضح أنه باكستانى مسلم يعرف اللغة العربية. وهو لم يرفض المكافأة فقط بل عبر عن أسفه لأنه ليس فى مقدوره أن يقدم أى تبرع.

وذهب أبونا بيشوى فى خدمته إلى انجلترا وفرنسا والنمسا. وبين سفرية وأخرى يعود إلى مصر لينتعش بالارتواء من قديسيها وشهدائها على حد تعبيره هو شخصياً.

لقد عاش أبونا بيشوى وزوجته أنجيل فى تبتل ونسك تحت سقف زيجتهما. فلقد أنكرا على نفسيهما حقهما الشرعى لينثرا محبتهما على الناس. ولقد عاش أبونا فى يقينية أمومة الكنيسة مبرهناً من خلال أعماله على أنه من خلال محبة الكنيسة نستطيع أن نتفهم أبوة الله.

وفى أبوته الحانية افتتح فى 1 يناير 1976م بيتاً لليتامى وأبت عليه أبوته الرقيقة أن يدعوه ملجأ فأطلق عليه اسم "جمعية مارجرجس لرعاية الطفولة والأمومة". ومن العجيب أنه فيما هو يفكر فى هذا المشروع إذ بخادمة تأتيه بيتيمتين من الصعيد. وفى الحال تكلم أبونا مع سيدة عندها شقة خالية وطلب إليها أن تعدها لاستقبال الطفلتين. فسألته: "ومن سيبيت معهما." أجابها: "شابة جامعية من المتغربات واسمها نجوى." قالت السيدة: "ليست هناك وسيلة للإتصال بها." وجاءها الرد التلقائى المعتاد: "سيرسلها الله." وقبل أن تنتهى المكالمة التليفونية رن جرس الباب، وعندما فتحته دخلت نجوى!

ولقد امتدت أبوته إلى ما بعد انتقاله. فقد سمع أثناء مرضه عن شابة أغراها الشيطان عن طريق شاب غير مسيحى ـ فأرسل أبونا فى طلبها. ولمست روحه قلب هذه الشابة فقطعت علاقتها نهائياً مع الشاب. فلما طارت روحه الطاهرة إلى الفردوس عاود الشاب إغرائها ونجح فى استمالتها إليه. وذات ليلة رأت حلماً: "أنها سائرة يتأبط الشاب المذكور ذراعها وفجأة رأت أبونا بيشوى أتياً نحوها ينظر إليها بثبات وحزن معاً. فارتعدت خوفاً وخلال رعدتها سمعته يقول لها بتوكيد: "ألم أقل لك أن لا تسلكى هذا المسلك؟" وما إن سمعت هذه الكلمات حتى سحبت ذراعها من ذراع صديقها. بينما استمر أبونا يقول لها: "إياك أن تسيرى معه مرة أخرى." واستيقظت لساعتها وقد امتلأت رهبة، وهى لا تزال ترى وجه أبينا وتسمع كلماته. ولما اصبح الصباح ذهبت إلى كاهن من زملاء أبونا بيشوى وقصت عليه الحلم، ثم أضافت: "أنا أعلم أنه ما زال يوالينى برعايته وأبوته." ومذاك لم تكتف بالسير فى الطريق الضيق فقط، بل هى تسعى بدورها إلى اجتذاب أية شابة تراها سائرة فى طريق الانزلاق الذى استخلصها منه أبونا بيشوى.

ولا يمكن للمرء أن ينسى يوم أن كان ابونا يركض ليخلص بنت فقيرة يتيمة كانت قد وقعت فى براثن شاب مجند غرر بها واستدرجها حتى أصبحت فريسة سهلة.. فكان يجرى بكل طاقاته من مكان إلى مكان.. من قسم البوليس إلى النيابة العسكرية إلى الطب الشرعى ومعه أبونا لوقا سيداروس أخيراً أخلت النيابة سبيلها وكانا على باب الطب الشرعى وخرجا ومعهم الفتاة فى أيديهم وعندما هموا بركوب السيارة كان الشاب قد أعد كميناً هو وبعض الجنود والشبان وانقضوا عليهم بقوة وحاولوا خطف الفتاة من أيديهم. وفى لحظات تجمع حولهم المئات مع سيارة بوليس وكأنها قد أعدت خصيصاً لذلك، وأخذوا الفتاة عنوة وأركبوها فى سيارة البوليس ولكن أبونا بيشوى تشبث بقوة بسيارة البوليس ليمنعها من التحرك وكان يصرخ لن أترك بنتى.. مش ممكن أسيبها.. وتحركت السيارة وأبونا ممسك بها من الخلف وأسرعت السيارة فصارت تجر أبونا بيشوى خلفها وأشفق عليه الحاضرون وكانوا يصيحون فيه كى يترك السيارة لئلا يصاب بأذى. ولما أخذت السيارة قوة اندفاعها فلتت يد أبونا وشهد الحاضرون أن قوة حفظته من السقوط. ولم يترك أبونا الموقف بل واصل سعيه حتى ردها إلى الرب. فقد كان أبونا يرى أن هذه النفوس بسيطة ولم تذق طعم محبة المسيح فى حياتها وأن التقصير فى رعايتها هو السبب الرئيسى فى بعدها، لذا سعى أبونا وراءها متأكداً أنها إن اكتشفت موت المسيح من أجلها وحبه لها وقيمة خلاص نفسها فلا يمكن أن تسلم نفسها أو تبيع مسيحها.

كان أبونا بيشوى بالحقيقة إنسان الله. فحين كان على وشك السفر إلى لوس أنجيلوس سنة 1969م تبعته الجموع الغفيرة إلى محطة سيدى جابر إلى حد أن سائق القطار اضطر أن يصفر صفارة القيام عدة مرات. بل إنه حين بدأ يتحرك سار ببطء شديد لأن المودعين كانوا يحيطون بالقطار من كل جانب. وأخيراً تمكن من الخروج من المحطة. وكانت سيدة إنجليزية راكبة فى القطار فسألت الجالس بجوارها وكان أبونا لوقا: "من يكون ذلك المسافر الذى تقاطرت الجماهير لتوديعه؟" أجابها إنه أبونا بيشوى كامل." وبدت الدهشة القوية على وجهها وفى صوتها: "كل هذه الحشود لأجل كاهن؟!" وصمتت قليلاً ثم أبدت رغبتها فى رؤيته. فأخذها أبونا لوقا إليه. وحين قدمها إليه صارحته بدهشتها أمام جماهير مودعيه. فقال لها فى تواضعه الجم: "هكذا هم الأقباط إنهم يحبون كنيستهم ويحبون كهنتهم." وبعد حديث قصير قالت السيدة الإنجليزية: "إنى أتعشم بكل صدق أن تذهب إلى لندن وتفتح كنيسة هناك لكى تسرى حرارة شعائركم وحماس شعبكم إلى قلوب الإنجليز."

فى يوم 7هاتور سنة 1692ش 17 نوفمبر 1975م أقيم قداس إلهى تذكاراً لبناء أول كنيسة على اسم مارجرجس فى اللد، وكان هذا اليوم عينه هو اليوم الذى تكرست فيه كنيسة مارجرجس باسبورتنج. ولهذين التذكارين المفرحين دعا أبونا بيشوى واخوته الكهنة وأعضاء لجنة الكنيسة نيافة الأنبا مكسيموس ليؤدى الشعائر المقدسة. وفى الصباح باكراً قام حليم زخارى ـ فراش الكنيسة ـ بتنظيفها وترتيبها ثم نزل إلى القاعة التى تحتها لينظفها أيضاً توقعاً للزحام. فوجد قرب مدخلها بنكاً مائلاً من الناحية ومربوطاً بدوبارة إلى البنك الذى إلى جانبه.فصرخ: "قنبلة قنبلة!!" وسارع إليه شماس الهيكل وأخذ يناقشه فى لا معقولية ما يصرخ به، إذ كيف يمكن وجود قنبلة فى هذه القاعة؟ ولكن حليم كان متأكداً مما يقوله مصراً عليه. فقد كان حليم جندياً ممن قاتلوا فى حرب 1973 ورأى مثل هذه القنابل فلما انتهت الحرب قصد إلى أبينا بيشوى يطلب عملاً فعينه فراشاً قبل هذا اليوم بثلاثة شهور. وكانت القنبلة فى وضع لا يحتاج إلى غير لمسة لتنفجر.

وبينما كان الشماس يجادله إذ بضابط جيش من المتخصصين فى المتفجرات يدخل ليحضر الصلوات!! وما إن رأى القنبلة حتى أكد قول حليم، كما أكد أنها من النوع الروسى شديد الانفجار وفى وضع التأهب. فذهب الضابط وهمس فى أذن أبونا بيشوى بالواقع. ونزل الكاهن الرصين بهدوئه المعتاد ورأى القنبلة فأغلق بابا القاعة بالمفتاح ووضعه فى جيبه ثم تحدث تليفونياً مع الوكيل العام للبابوية وبعدها صعد لاستكمال الصلوات. وما إن انتهت حتى رجا من الشعب أن ينصرف لفوره.

ووصل رجال الأمن والنيابة إلى الكنيسة ومعهم أخصائى مدرب فى المتفجرات. ولقد سجل هذا الأخصائى فى المحضر الخاص بالتحقيق أن القنبلة روسية الصنع ومن النوع شديد الانفجار، وتغطى دائرة نصف قطرها عشرة أمتار ـ أى أنها تغطى القاعة بأكملها! كذلك أكد أن الذى وضعها ممن يعرفون تماماً كيفية استعمالها، وأنه وضعها بغاية الدقة لتنفجر على الفور!

وفى الأسبوع عينه دخل رجل إلى كنيسة مارجرجس أثناء صلاة عشية. وكان يحمل شمعة كبيرة الحجم. وبينما كان أبونا بيشوى ماراً بين الشعب يبخر تقدم إليه هذا الرجل وأخبره بأنه يريده أن يوقدها له. أجابه رجل الله بهدوئه المعتاد: "ضعها مع الشموع الموضوعة قرب الباب وحالما انتهى من الصلاة أوقدها لك." فوضعها الرجل وخرج. وبعد قليل دخل شرطى إلى الكنيسة وسأل أبونا: "أين الشمعة التى جئ بها منذ قليل؟" فأشار إليها أبونا واتضح أنها غمد على هيئة شمعة محشواً بالمفرقعات. وكان اكتشاف هذا الواقع أيضاً من رعاية الساهر الذى لا ينام. لأن الرجل الذى أحضر الشمعة، حين خرج من الكنيسة، دهمه تاكسى فسقط على رأسه فاقد الوعى وحمل إلى أقرب مستشفى وفى هذيانه أثناء الغيبوبة اعترف بالأذى الذى كان ينتويه لأبينا بيشوى.

وفى تلك السنة عينها قدم الفادى الحبيب برهاناً جديداً على مدى فاعلية وعده القائل: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر." ويتلخص البرهان فيما يلى: كان هناك قطعة أرض فسيحة تقع على خط الترامواى عند محطة كليوباترا الحمامات. فرأى أبونا أن يبنى عليها كنيسة وقد تم بالفعل بناؤها مؤقتاً لحين صدور قرار جمهورى وهذا أيضاً حصل عليه أبونا بعمل ربنا العجيب، وهكذا كلل الرب هذا العمل المقدس بالنجاح خصوصاً أن وافق أول قداس فى هذا المكان الطاهر يوم الجمعة 21 طوبة أى 8 فبراير 1976م وهو يوم تذكار السيدة العذراء. ولكن القطعة كانت ملاصقة لمبنى الاتحاد الاشتراكى، فاستثار عدو الخير المقيمين فى المنطقة ضد أبينا بيشوى مما جعلهم يشتكونه للشرطة. على أن رجل الله لم يتراجع بل حدد يوماً لبناء السور. وقضى الليلة السابقة لهذا اليوم فى الصلاة حتى مطلع الفجر وما إن بزغ أول شعاع للشمس حتى فتح نافذته ويا للعجب! فقد دخلت إلى الحجرة عصفورة جميلة غريبة الشكل وأخذت تنط فى الحجرة وتغرد وترفرف بجناحيها، بل إنها وقفت على كتف أبونا فى ثقة واطمئنان. وراقبها فرحاً مستبشراً وللوقت ارتدى ملابسه وخرج إلى الأرض المرغوب فى إقامة الكنيسة عليها. وعندما هَّم البّناء لكى يبنى استوقفهم رجال الشرطة. وهنا خلع أبونا لباسه الخارجى الكهنوتى ولفّ أكمامه إلى ما فوق الكوع وبدأ يبنى بيديه. وسرى حماسه إلى كل الذين رافقوه فاشتركوا معه فى العمل. ولقد بلغ اشتغالهم مبلغاً مكنهم من أن يبنوا ست عشرة ألف طوبة فى ذلك اليوم! وكانوا على يقين من أنهم لا يبنون وحدهم بل لقد اشتركت معهم أيد ملائكية.

على أن الإنسان كثيراً ما يمتلئ قلبه رهبة أما بعض الأحداث التى يعجز تماماً عن إدراكها. ومن هذه الأحداث ما جرى لأبينا بيشوى! فهذا الرجل المكرس بكليته لخدمة كنيسته وشعبه. هذا الرجل العائش حياة ملائكية على الأرض، وفى تبتل نسكى ومحبة عارمة ـ أصيب بالسرطان! وأعجب العجب أنه استمر فى خدمته وجهاده بلا هوادة إلى أن أعجزه الألم عن الاستمرار! هذا المرض المزعج بدأ يغتاله منذ سنة 1976م.  وصارع أبونا  صراع الجبابرة وسط آلامه لغاية عيد الميلاد المجيد سنة 1977م. وما كاد الأستاذ ألبرت برسوم سلامه (وزير الدولة آنذاك) أن سمع بمرض أبونا وبنصيحة طبيبه المعالج بالذهاب إلى لندن، حتى نجح فى أن يحصل له ولزوجته ولأبينا لوقا على الإذن بالسفر والإقامة والعلاج على حساب الحكومة المصرية. وبدأ فترة علاجه فى مستشفى Royal Free Hospital وهناك أعطوه غرفة فى جناح مخصص لسكان الشرق الأوسط. ووضع تحت الفحص والأشعة والتحاليل ثم أجريت له العملية فى 14 يناير أى 6 طوبة.

عندما اكتشف الدكتور الجراح فى لندن طبيعة المرض وتكلم معه وحوله أحباءه تكلم فى صراحة كاملة لم يهتز أبونا بيشوى ولم يضطرب.. بل ظهر معدنه الأصيل وجمال حياته الداخلية وعندما رأى اضطراب من هم حوله قال لهم: "أين إيمانكم؟ أم هو وعظ وكلام فحسب؟ وإن كان الأمر كذلك فكفوا عن الوعظ والكلام." ومن ساعتها كان أبونا دائماً يقول: "إحنا تحت أمره."، "نحن أولاده وهو أبونا السماوى." "لتكن مشيئتك."

وكان أبونا قد أخذ معه أيقونة للسيدة العذراء التى كانت لها منزلة خاصة فى قلبه. وفى عشية 21 طوبة، أراد أن يترنم بتمجيد للسيدة العذراء وبتسبحة فى مديحها. وأحس برغبة قوية فى تزيين الأيقونة بالورد ـ ولكن لم تكن لديه وردة واحدة. وكان عند أنجيل علبة كرتون تزين غطائها وردة ملونة فقصت بعضها وزينت بها الأيقونة. وفى نفس الليلة عينها فوجئوا مفاجئة مفرحة. فقد دخلت الحجرة إحدى بنات أبينا بيشوى (من كنيسة مارجرجس اسبورتنج ) وهى تحمل باقة ورد بديعة فسألها أبونا: "من أين جئت بهذه الباقة؟" أجابته: "حين سمعت أنك هنا ركبت الأتوبيس الموصل إليكم. وفجأة توقف الأتوبيس أمام دكان أزهار. فنزلت واشتريت هذه الباقة. ولما خرجت وجدت الأتوبيس ما زال واقفاً. فركبته وها أنذا!"

فلما انتهت أنجيل من تزيين الأيقونة بالورود الجميلة التى وصلتهم قام أبونا بابتهاج بعمل تمجيد للسيدة العذراء وكان الذراع الأيمن لأبينا قد أصيب بشلل نتيجة لضغط الورم على عصب الذراع. وقد أخبره الطبيب أنها لن تعود إلى طبيعتها إلا بعد شهر أو أكثر وفى الصباح التالى قام أبونا ليغسل وجهه ويديه استعداداً للصلاة دون أى تفكير فى ذراعه المشلولة. وياللعجب! لقد تحركت الذراع على غير انتظار! فامتلأ الكل فرحاً. ثم حدث أن دخل الطبيب المعالج الحجرة فى تلك اللحظة عينها، فهتف فى دهشة واضحة: "إنها لأعجوبة!" وسرى الخبر من شفتين إلى شفتين، وكذلك مرّت الأيقونة من حجرة إلى حجرة، وشاء الآب السماوى أن تكون الأيقونة وسيلة لشفاء بعض الذين أمسكوا بها!

ولما تعافى أبونا بعد العملية عاود الأطباء فحوصهم وتحاليهم وأشعاتهم. ووجدوا ورماً فى مصارينه فقرروا وجوب عملية ثانية. وفى الليلة السابقة على تنفيذ هذا القرار سأل أبونا الطبيب الجراح: "هل أنت متأكد من وجود هذا الورم؟ وضحك الطبيب وقال: "إن كل صور الأشعة تثبته. وفوق ذلك فأنا أخصائى ولى سنين طويلة فى الممارسة فى هذه الميدان." وصمت رجل الله. وفى الصباح التالى حين جاءوا ليأخذوه إلى غرفة العمليات أصر على أن تظل أيقونة السيدة العذراء تحت مخدته. وعند تخديره قبل إجراء العملية أصيبوا بالذهول إذ لم يجدوا أى ورم على الأطلاق. ولكنهم ولعدم تصديقهم قرروا إجراء العملية. وحينما فتحوا بطنه رأوا بعيونهم ولمسوا بأيديهم عدم وجود أى ورم. وبلغ ذهولهم حداً جعل الجراح يتكلم تليفونياً من غرفة العمليات مع أنجيل ليبلغها الخبر المفرح!

وأبونا بيشوى حين كان فى إغماءة التخدير، كان يترنم بالقداس الإلهى حتى لقد أنشده من أوله إلى آخره بنفس النغمة وبالتوازن عينه اللذين كان يصلى بهما وهو فى وعيه أمام المذبح! فمجد المحيطون به الآب السماوى الذى ملأ كيان تلميذه حتى أعماق لاوعيه.

كان هناك شاب استرالى وكان هو الجراح المساعد فى Royal Free Hospital وبعد وصول أبونا إلى لندن بأيام قليلة ركع هذا الشاب إلى جانب سريره بانفعال واضح وقال: "يا أبانا بيشوى إنك تذكرنى بقوة بولس الرسول؛ بحياتك النقية المقدسة وبأمراضك الكثيرة وبحملك الأخبار المفرحة عبر العالم، وبأسفارك العديدة. بل حتى متى تفرست فى وجهك خيل لى إنى أرى رسول الأمم." وأمام هذه الكلمات الدافقة أعلن أبونا بأن كل هذه النعمة التى يراها إنما ترجع إلى قوة الحياة فى المسيح، ثم بدأ يكشف له بالتدريج وبرقته المعهودة إلى عمق الروحانية التى للكنيسة القبطية.

أخيراً أعلن الأطباء أن جسد أبونا أصبح خالياً تماماً من المرض الخبيث. فعاد إلى شعبه الفرح المتهلل.

يقول القمص لوقا سيداروس:

 "عندما عدت يا أبونا إلى الإسكندرية اجتمع إليك الآباء الكهنة فقلت لهم: "إن الكاهن لابد أن يكون تائباً..ليكون مثال للتوبة. وإن أغلى شئ فى حياة الكاهن هو الوقت الذى قد يضيع منه ساعات وأيام ونحن أحوج إلى كل دقيقة." وقلت إنك فى شدة آلامك المبرحة قبل العملية كانت الساعات تجرى والآلام لا تمكنك من التركيز فى عمل التوبة وكنت تطلب من الرب يوم تكمل فيه عمل التوبة ولما قارب وقت العملية كنت تصرخ داخلياً بصلاة اللص التائب.. اذكرنى يارب متى جئت فى ملكوتك.. وأوصيت الآباء بهذه الوصية الغالية افتدوا الوقت لأن كل دقيقة لها قيمة غالية.."

وفى خبث عنيد عاوده المرض بعد سنتين من المهادنة! وتحت ضغط أحبائه المتواصل قبل أن يعود إلى المستشفى بلندن، وهناك اكتشف الأطباء أن المرض غزا الكلى، وعالجوه بالدواء ونصحوه بالعودة إلى وطنه حيث يمكنه الاستمرار على هذا الدواء. وقبل رجوعه صلى قداساً حاراً فى كنيسة مارمرقس هناك. وهكذا عاد عودته الثانية إلى شعب محزون كسير القلب.

ومن المعروف عند الجميع أن الآلام التى يسببها السرطان عنيفة مبرحة. ولكن أبونا بيشوى عاش الصليب من البداية. عاش صليب الآلام كما عاش صليب الفرح، بل وأكد الناحيتين بلا هوادة ـ الألم الذى ينظر إليه الناس بكثافة متغايرة تبعاً لمقدار قربهم من فاديهم المصلوب. والفرح بالصليب لكونه الوسيلة الوحيدة لخلاصنا وفدائنا. وهو أيضاً قد أبرز أن الكنيسة القبطية فى تعييدها للصليب تترنم بنغمات أحد الشعانين ـ أى نغمات التهلل. وتوافقاً مع الكنيسة تغلب أبونا بيشوى على الألم بالفرح، فهو قبل أن يصاب بالسرطان سماه "مرض الفردوس!" ولما اضطره الوجع إلى ملازمة الفراش كان يحتمل الألم فى صبر وصمت مركزاً عينيه على الصليب. أما فترات الهدوء بين هجمات الوجع الباطشة فكان يقضيها فى الترنم بالتسابيح والتماجيد، وأيضاً فى خدمة من يأتون إليه أو من يرسل هو فى طلبهم!

ولقد وجد هذا التلميذ الملتصق بمعلمه التصاق يوحنا الحبيب الهدوء العميق بإصغائه إلى مراثى أرميا التى قام بتسجيلها بصوته قبل نياحته بفترة وجيزة خشية أن يمنعه المرض عن التمتع بالقراءة، فكان إصغاؤه إلى هذه المراثى يخفف من عنف الآلام. فكان هذا الاحتمال بالتهلل يملأ قلوب من يرونه عزاءً وفرحاً. فهم أيضاً رأوا فيه بولس الرسول الذى قدم كشف آلامه كوثيقة دامغة على رسوليته. فقد حول الألم إلى عشرة مع الله والمرض إلى كرازة.

أخيراً فى 10برمهات فى عيد الصليب، وقبل النهاية بيومين. سأل أبونا المحيطين به: "أى عيد نعيده اليوم؟" وقبل أن يجيب أحدهم قال: "إنه عيد الصليب." وسارع الطبيب إلى القول: "أرجو يا أبانا أن لا تجهد نفسك بالكلام." أجابه رجل الله: "لماذا نخاف؟ إن عيد الصليب هو عيد القوة. إنه عيد الحرية. وأنا متلهف على التحدث كثيراً عن الصليب. من فضلك لا تمنعنى. إن رسالتنا هى أن نظهر قوة الصليب أمام كل إنسان. وهكذا أخذ يتكلم عن سلطان الصليب الذى كان لعنة فى القديم فحوله السيد المسيح إلى بركة لجميع الناس. وأصغى إليه الأطباء فى إعجاب صامت إلى أن انهى حديثه. فقد كان الجسد ضعيف أما الروح فنشيط. وكان الخارجى يفنى والداخلى يتجدد يوماً فيوماً على حسب صورة خالقه.

وفى عشية 12 برمهات أخذ أبونا بيشوى يمنح بركاته لجميع المحيطين به. وبينما كانت عقارب الساعة تتحول نحو مطلع الفجر سأل أبونا فى نشوة: "إيه الفتحة اللى فوق ديه؟" وسأله أبن أخيه: "أين يا أبانا؟" أجاب فى همس: "إنها السماء" وهكذا انفتحت أبواب الفردوس ورن صوت الفادى الحبيب فى أذنى هذا التلميذ الذى ظل أميناً حتى الموت: "نعماً أيها العبد الصالح والأمينأدخل إلى فرح سيدك؟" وكان ذلك فى الساعة الثامنة والثلث من صباح يوم الأربعاء 21مارس 1979م 12برمهات 1695ش.

بعد ثلاث ساعات من نياحة أبونا بيشوى كان الجثمان الطاهر مُسجى داخل نعشه عند حجاب الهيكل. كان مرتدياً ثيابه الكهنوتية البيضاء المزينة بالذهبى وهو ممسك بيده صليباً خشبياً، بل قل كان مرتدياً ثياب السمائيين كما وصفهم يوحنا الرائى. رقد هناك فى نعشه المفتوح بينما مرت الجماهير الحاشدة فى صف واحد لتنال بركته الأخيرة. كانوا يدخلون من الباب الجنوبى الغربى للكنيسة، ويقبلون الصليب فاليد التى تحمله فى إصرار، ثم يخرجون من الباب الشمالى الشرقى. واستمرت الجموع فى سير لا ينقطع مذاك إلى الساعة الثالثة ظهر الخميس. وفى تلك الساعة دخل قداسة البابا شنودة الثالث ليرأس شعائر التجنيز. وكان برفقته أصحاب النيافة أنبا يؤنس أسقف الغربية، أنبا باخوميوس أسقف البحيرة والخمس مدن الغربية، أنبا بيشوى أسقف دمياط والبرارى وكفر الشيخ، أنبا هدرا أسقف أسوان، أنبا بنيامين أسقف المنوفية، وأنبا تادرس أسقف بورسعيد، والأنبا رويس الأسقف العام. ودخل معهم مجمع كهنة الاسكندرية. وعدد وفير من كهنة كافة البلاد المصرية. أما الناس فقد ملأوا الكنيسة والقاعة والوشارع المحيطة بها وعلى بعد مربعين شرقاً وغرباً.

ولما انتهت الصلوات ألقى قداسة البابا شنودة الثالث كلمة جاء فيها:

 "يا أخوتى ما أصعب أن تتحول الحياة إلى قصة. وما أصعب أن المعلم يتحول فيه الصوت إلى صمت. وما أصعب أن إنساناً كنت تراه بنظرك بالعيان لا تعود تراه إلا بالإيمان.لقد كان القمص بيشوى كامل من الأرواح الكبيرة.. من الطاقات الضخمة التى استخدمها الله فى بناء ملكوته وحين دخل أبونا بيشوى الخدمة أدخل معه نوعاً جديداً من الخدمة فيها يأخذ الخادم من الله مباشرة ليعطى الشعب وفيه اجتمع التواضع بالشجاعة..والكنيسة التى خدمها أصبحت مركز إشعاع

القمص بيشوى كامل نحزن على رحيله إن كان فرداً من الأفراد. لكنه لم يكن فرداً كان مدرسة وهذه المدرسة باقية وما تزال تعمل بروح القمص بيشوى فى كل فرد من أفرادها، كلهم منه ومثاله وعلى شبهه ومثاله يخدمون.

إن الأرواح الكبيرة أرواح مجاهدة بلا انقطاع سواء فى الجسد أو خارج الجسد.. وروح كبيرة كأبينا بيشوى لا يمكن أن تكف عن الجهاد. فلقد انضم إلى جماعة القديسين، وكلهم أصبحوا أكثر قوة وأعظم إمكانيات وأوسع حرية..لسنوات طويلة لم أكن أتصور كنيسة مارجرجس باسبورتنج من غير أبينا القمص بيشوى. وحتى الآن ما زلت أعتقد أنه فيها، فليس من المعقول أن شخصاً ينسى جهاد السنين الكثيرة حينما ينتقل إلى العالم الآخر.

وفى مقصورة خاصة تحت المذبح الشمالى لكنيسة مارجرجس باسبورتنج وضع جسد أبينا الحبيب، وأصبحت هذه المقصورة مزاراً يزوره المسيحيون من كل مكان وفى كل الأوقات.

وإن الكلمات التالية هى حوار دار بين اثنين من ضباط الشرطة كانا مكلفين بالحراسة ساعة الجنازة كما رواه القمص لوقا سيداروس:

·        كنت متوقعاً أن أجد أكثر من نصف مليون شخص، أظن أن المسيحيين لم يعطوا أبانا حقه من التكريم.

·    إلى هذا الحد؟ إنى لم أحضر فى حياتى جنازة بها هذا الإخلاص والعرفان! ولم أر قط قلوب كسيرة، ولا دموعاً سخية! ومع ذلك ألم يكن الرجل مجرد كاهن؟!

·    لو أنك كنت على صلة بالرجل لاتفقت معى، لأنى أقول لك لو أنك طلبت إليه أن يحل سيور حذائك لقبل ذلك من غير تذمر، بل بالحرى لفعله بفرح وسرور. تصور أنه أعطى ذاته إلى هذا الحد لكل إنسان! ولهذا السبب أقول لك إنهم لم يوفوه حقه من التكريم."

 ولعل الكلمات القليلة الآتية التى كتبها أبونا بيشوى فى رسالة له لأحد أحبائه تكشف عن جمال حياته وعمل النعمة ومحبة الكنيسة التى فى قلبه كتب يقول:أحبائه كتب إليه يقول

عزيزى

إننى شخصياً لست قارئاً ولا كاتباً. ولكننى شربت ورويت عطشى من كنيستنا المحبوبة. فالروح القدس وحده كان المرشد والقائد. كان حنوناً علىَّ وعلى الخدمة كمرضع نحو رضيعها. وكنت أمتلئ بالفرح والعزاء لمجد الله والاعتراف بخطاياى وضعفى وحقارتى وفقرى لكن روح الله كان أميناً رغم عدم أمانتى. ومع أن اسمى ضئيل إلا أنه أصبح موضع جدل والله وحده يعلم إنى لا أعرف لماذا زجوا باسمى خلسة بين المعلمين وأنا جاهل وفقير ووضيع.

وإلى اليوم أحتفظ بأناتى داخل قلبى: أنات داخلى نهاراً وليلاً واحتفظ بانعزالى لكى يختفى اسمى وأشغل مكانى الحقيقى ـ مجهولاً وضئيلاً. وحين يحدث هذا سأكون فى فرح عظيم أخدم خدمة بسيطة. وأرفع قلبى لمحبة الجميع رافعاً تشكراتى إلى الله.. تلك هى مشاعرى الداخلية غير المعترف بها التى أردت أن أكشف عنها لك شخصياً ذاكراً خطابك الأول الذى أرسلته لى من عشر سنين، ذاكراً أن محبة روحية تربط قلبينا، وهذه المحبة ستبقى إلى الأبد لأن الله محبة والمحبة لا تسقط أبداً.

القس بيشوى كامل

بركة صلواته تكون معنا أمين.

المراجع:

قصة القمص بيشوى كامل "إشعاع مغناطيسى" بقلم: إيريس حبيب المصرى

القمص بيشوى كامل رجل الله  للقمص لوقا سيداروس

كان الموضوع بخصوص خروج هذه الشابة من الإيمان.

عن كتاب القمص بيشوى كامل رجل الله للقمص لوقا سيداروس

أبونا لوقا سيداروس والحادثة منقولة من كتابه القمص بيشوى كامل رجل الله

دكة

متى 28: 20

القمص بيشوى كامل رجل الله  للقمص لوقا سيداروس

متى 25: 21 ، لوقا19: 17

 "بعد هذا نظرت و اذا جمع كثير لم يستطع احد ان يعده من كل الامم و القبائل و الشعوب و الالسنة واقفون امام العرش و امام الخروف متسربلين بثياب بيض و في ايديهم سعف النخل." رؤيا 7: 9