1 برمودة: نياحة القديس سلوانس الراهب

في مثل هذا اليوم تنيح الأب القديس سلوانس الراهب. وقد ترهب هذا الطوباوي بدير القديس مقاريوس، وسار في الفضيلة وأجهد نفسه بالصوم الطويل والسهر الكثير، والإتضاع والمحبة، حتى صار أبا عظيما. وقد أهله الله لرؤية المناظر الإلهية. وكان يوصي تلاميذه دائما بأن لا يهملوا شغل اليد. وأن يتصدقوا بما يفضل عنهم.

وفي أحد الأيام رآه راهب كسلان منهمكا مع تلاميذه في عمل أيديهم، فقال لهم: "لا تعملوا للطعام الفاني. فإنه مكتوب: "أن مريم اختارت النصيب الصالح الذي لا ينزع منها." فلما سمعه الشيخ قال لتلاميذه: "أعط الأب كتابا وادخله الكنيسة وأغلق عليه ليقرأ ولا تدع عنده شيئا يؤكل." ففعل التلميذ ذلك. ولما أتت الساعة التاسعة أكل الشيخ وتلاميذه ولم يدعوا الراهب. وفي أثناء ذلك كان الراهب شاخصا بعينيه نحو الباب منتظرا من يدعوه. وإذ اشتد الجوع خرج من الكنيسة وقال للشيخ: "أما أكل الأخوة اليوم؟" فأجابه: "نعم"، "فلماذا لم تدعوني للأكل معهم؟" فأجابه: "أنت رجل لا حاجة بك إلى الطعام الجسدي، ويكفيك النصيب الصالح. أما نحن فقوم بشريون محتاجون إلى الغذاء الجسدي. ولهذا نعمل بأيدينا." فعلم الأخ أنه قد أخطأ. فضرب ميطانية مستغفرا. فأجابه الشيخ قائلا: "يا أبني لابد لمريم من أن تحتاج إلى مرثا لأن بمرثا مدحت مريم." فانتفع الأخ من هذا التعليم، وصار مداوما علي العمل بيديه، متصدقا بما يفضل عنه.

وقد وضع هذا الأب أقوالا نافعة في الجهاد الروحي. ولما أكمل جهاده بشيخوخة صالحة، أعلمه الله تعالي بوقت نياحته، فاستدعي الرهبان القريبين منه وتبارك منهم، وسألهم أن يذكروه في صلاتهم. ثم تنيح بسلام. صلاته تكون معنا. أمين.

 الأب سلوانس

عن كتاب: الرهبنة القبطية فى عصر القديس أنبا مقار ـ الأب متى المسكين

وإن كان يوجد أكثر من واحد من الرهبان حملوا هذا الاسم، إلا أنه فى الحقيقة لا توجد لهم أقوال معروفة. فكل الأقوال التى وردت فى كتاب أقوال الآباء تحت هذا الاسم هى لشخصية واحدة عظيمة قديسة عالمة، هى شخصية الأب سلوانس الذى عاصر أنبا مقار وتتلمذ عليه. وقد جاء عنه فى السنكسار القبطى لرينيه باسيه تحت أول برمودة هكذا:

(فى مثل هذا اليوم تذكار الأب القديس سلوانس هذا الطوبانى كان من صغره ترهب عند القديس مقاريوس بوادى هبيب وسار فى كل طريق ضيقة وأجهد نفسه بالصوم الطويل والسهر الكثير والاتضاع والمحبة وصار أباً عظيماً وكان الله يظهر له المناظر الإلهية ويوحى إليه بأمور كثيرة..….)

وقد عرف سلوانس بلقبين:

الأول: "الشيهيتى" أى الذى عاش حياته فى شيهيت.

والثانى: "السينائى" لأنه عاش فترة من حياته فى شبه جزيرة سيناء، ولذلك ظن بعض المؤرخين أن موطنه الأصلى فلسطين.

تلاميذ سلوانس:

من المعروف أنه كان للقديس سلوانس تلميذان من أفضل التلاميذ الذين عرفتهم الرهبنة فى الطاعة والمحبة والإخلاص للمعلم، الأول مرقص والثانى زكريا، وكان الأول يلازمه فى شيهيت والآخر لازمه فى سيناء. كما عُرف له تلميذ ثالث رافقه أيضاً فى رحلاته وهو زينو.أما تلاميذه فكانوا إثنى عشر تلميذاً وهذا نعرفه من القول الآتى:

(قيل عن الأب سلوانس أنه كان فى شيهيت تلميذ اسمه مرقس، وكان قد نال درجة عالية فى موهبة الطاعة، وقد كان كاتباً. وكان الشيخ يحبه كثيراً من أجل طاعته، وكان مع مرقس أحد عشر تلميذاً آخرين، كانوا متضايقين بسبب رؤياهم للشيخ وهو يغدق محبته على مرقس أكثر منهم جميعاً، فلما بلغ هذا الخبر الآباء الشيوخ (مجمع الشيوخ الكبار الذين يدبرون ناموس البرية كلها)، لم يرضوا بذلك. وعندما أتوا إلى سلوانس ليراجعوه فى الأمر أخذهم سلوانس وذهب معهم إلى قلالى تلاميذه وقرع باب قلاية كل واحد منهم قائلاً: "يا أخ احضر لأنى محتاج إليك". غير أنه ولا واحد منهم قام فى الحال مطيعاً للأمر إلا مرقص الذى لما سمع مجرد صوت معلمه يقول: "يا أخ مرقس" قفز فى الحال وخرج، فأرسله معلمه بعيداً. والتفت سلوانس إلى الآباء قائلاً: والآن يا آباء أين بقية الأخوة؟ ثم أخذهم ودخل قلاية مرقص ونظروا فى الكتاب الذى ينسخه فوجدوه قد توقف عند البدء فى كتابة حرف (W) ولم يكمله عندما سمع صوت معلمه يناديه، فلما نظر الشيوخ هذا قالوا لسلوانس: "بالحق أيها الشيخ نحن أيضاً نحب هذا الأخ الذى تحبه أنت والله يحبه أيضاً")

اتساع روحى مذهل:

والمعروف عن سلوانس أنه كان قديساً كبيراً وعالماً وفيلسوفاً وذاعت شهرته فى العالم كله بسبب علمه وحكمته مع فضائل نسكية عالية، فقد جمع هذا الأب بين "المعرفة والنسك" وبين "الحكمة والفضيلة" وبين "قراءة الكتب العتيقة وبساطة السيرة جداً". كما جمع بين "التأمل فى الإلهيات وعمل اليدين" وبين "الاهتمام الكبير بلوازم الحياة الجسدية مع قمع الطموح والاتساع". وكل هذه تنطق بها سيرته وأقواله، مما يجعلنا نضع هذه الشخصية النادرة المثال بين أعاظم القديسين الذين تتلمذوا على القديس أنبا مقار، فصاروا نموذجاً عالياً فى الحياة الرهبانية وركيزة هامة فى التدبير النسكى.

فمن جهة الاهتمام بلوازم الحياة اهتماماً كبيراً مع ضبط الفكر فى الروحيات بآن واحد نقرأ له: (لما كان الأب سلوانس بطور سينا حدث أن زكريا تلميذه تركه وذهب للخدمة (فى الكنيسة)، وكانت قنوات المياه مفتوحة فى الجنينة، فما كان من الأب سلوانس إلا أن ذهب بنفسه ليروى الحديقة ولكنه أنزل الكوكلسة (غطاء الرأس) على عينيه فلم يعد يرى إلا قدميه فقط وأخذ يروى الحديقة، وبينما هو على هذا الحال أتاه أخ ورآه وتعجب مما يعمل فذهب مستفسراً وهو يعتذر: "حاللنى يا أبى لماذا تغطى عينيك وأنت تسقى؟"، فأجابه الشيخ: "لقد فعلت ذلك حتى لا تنشغل عينى برؤية الشجر فيتشتت فكرى عن عمله (التأمل) ويضيع عقلى بين الشجر!") وهكذا نجد هذا الراهب الحكيم لا يتأخر عن أن يهتم بالبستان ليعطى جسده ما يلزمه، ولكن لا يدع اهتمامه بالبستان يطغى على اهتمامه القلبى الذى يغتذى منه روحياً!

ولم يكن هذا المبدأ فكر عابر، ولكنه كان ناموس الحياة كلها عند سلوانس وكل تلاميذه بل وحتى زائريه. فقد حدث أن: (مرة زار أحد الأخوة الأب سلوانس فى جبل سيناء، فلما رأى الأخوة منكبين على العمل، قال للشيخ: "لا تعملوا للطعام البائد أيها الأب، لأن مريم اختارت لها النصيب الصالح". فقال الشيخ لتلميذه زكريا: "أعط الأخ إنجيلاً وأدخله فى قلاية فارغة"، ففعل. فلما حانت ساعة الأكل بقى الأخ منتظراً على الباب مترقباً وصول من يسأله المجئ إلى المائدة، فلما لم يدعه أحد، نهض وجاء إلى الشيخ وقال له: "أما أكل الأخوة اليوم يا أبانا؟". أجابه: "نعم". فقال له: "لماذا لم تدعُنى للأكل معهم؟" فأجابه الشيخ: "ذلك لأنك رجل روحانى لست بحاجة إلى طعام وأما نحن فجسديون نحتاج إلى طعام ولذلك نمارس الأعمال. أما أنت فقد اخترت النصيب الصالح، تقرأ النهار كله ولا تحتاج إلى أن تأكل طعاماً". فلما سمع الأخ هذا الكلام خرَّ ساجداً وقال: "إغفر لى يا أبانا". فأجابه الشيخ: "لاشك أن مريم تحتاج إلى مرثا. لأن مريم بمرثا مُدحت".)

أما قدرة هذا الراهب الحكيم علىالجمع بين الحرية فى التصرف اللازم مع القدرة على الحد من الحرية إلى درجة القمع، فهذه القصة تشرح ذلك بدقة: (عزم الأب سلوانس على السفر إلى أحد الأديرة البعيدة ومعه تلميذه، فقام ورتب شيئاً من الطعام وأكلا وشربا معاً استعداداً للسفر (وكان ذلك اليوم يوم صيام). وبينما هما سائران وجد زكريا ماء فى الطريق فمال ليشرب، وإذ بالشيخ ينهاه قائلاً: "زكريا، إن اليوم صيام" فاندهش زكريا وقال: "نعم يا أبى ولكننا أكلنا". فرد عليه الشيخ الحكيم قائلاً: "إن الأكل الذى أكلناه كان بحكم الضرورة والآن ينبغى أن تحفظ الصوم يا أبنى")

أما قدرة هذا الأب الحكيم على ضبط الفكر عن الطموح فى الاتساع فى الأمور الجسدانية مع الاهتمام بالضرورى منها فندركه من القصة الآتية:

(حدث أن زكريا تلميذ الأب سلوانس أخذ معه بعض إخوته، بدون علم الشيخ، وذهب إلى الحديقة (التى تنتج لهم الخضار والفاكهة فى سيناء)، وهدموا أسوارها وأضافوا إليها مساحة جديدة بغية اتساعها، وأعادوا بناء السور. فلم علم سلوانس بالأمر، لبس الكوكلسة ولف نفسه بردائه وهَمَّ خارجاً لمغادرة المكان قائلاً: "صلوا من أجلى". فلما رأوا ذلك خروا وسجدوا أمامه قائلين: "مالذى حدث يا أبانا؟"، فأجابهم: "اسمعوا، إنى لن أدخل مرة أخرى إلى داخل القلاية ولن أخلع ردائى حتى تعيدوا السور إلى ما كان عليه أولاً". فلما أتموا إعلادة السور إلى وضعه القديم دخل أمامهم). وهكذا استطاع الأب المبارك أن يهذب تلاميذه بالقدوة والحكمة والحزم، وسقاهم من نبع الحكمة الإلهى حتى أوصلهم إلى الميناء، فكان مثلاً رائعاً فى السلوك الرهبانى، ومنهم من صار أسقفاً مثل الأب "ناتيرا" الذى أختير أسقفاً على مدينة رايثو (مدينة الطور حالياً)، الذى نقرأ عنه: (قيل عن الأب ناتيرا تلميذ الأب سلوانس الذى ظل يسكن فى قلاية معلمه من بعده (سلوانس رجع إلى شيهيت) أنه كان رفيقاً بجسده ومتلطفاً فى تدبيره ونسكه، ولكنه لما أختير إلى الأسقفية رغماً عنه اشتد على نفسه وتجبر على جسده بالضيق والنسك الشديد. فاندهش تلميذه وسأله يوماً: "يا أبى عندما كنا نعيش فى البرية لم تكن تحيا بمثل هذا الشظف والضيق واحتقارك لذاتك فما هو السبب؟"، فأجابه: يا ابنى لما كنا فى البرية كانت الصحراء والسكون والفقر يسندنا فما كان علينا وقتئذ إلا أن نحفظ الجسد من المرض، ولكن نحن هنا فى العالم وتحيط بنا الشهوات، فأصبح علينا أن نضبط الجسد ونقمعه حتى لا يسقط منا فى فخ الشهوة، فنفقد كل تعبنا وجهادنا"). وهكذا أثمرت حكمة سلوانس وأثمر تعليمه وتهذيبه لتلاميذه هذه الثمرات التى زينت الكنيسة.

أعلى درجات الدهش:

أما سلوانس فظل ينمو فى النعمة التى تاجر بمواهبها الروحية يوماً بعد يوم، كما تعلم وتسلم من القديس مقاريوس، حتى بلغ إلى أعلى درجات الدهش: (أتى مرة زكريا ليفتقد الأب سلوانس فوجده قائماً فى الصلاة إنما دون أى حركة. ويداه مرفوعتان نحو السماء. فخرج وأغلق الباب وعاد فى الساعة السادسة ثم التاسعة فوجده بهذا الحال عينه دون حركة. فخرج وعاد فى الساعة العاشرة (الرابعة بعد الظهر) فوجده لا يزال كما هو، فدقَّ على الباب ودخل، فانتبه الأب سلوانس. ولما سأله تلميذه: "ماذا حدث لك اليوم أيها الأب؟"، أجابه: "أنا اليوم أشعر أنى ضعيف ومريض". ولكن زكريا وقع على رجليه وأمسكهما قائلاً: "إنى لن أتركك حتى تقول لى ماذا رأيت". فقال له: "تعهد لى أولاً أنك لن تبوح بالأمر لأى أحد حتى أخرج من هذا الجسد وأنا أقول لك". فلما تعهد له تلميذه قال له: "لقد اختطفت إلى السماء اليوم ورأيت مجد الله ومكثت إلى الآن هناك حتى أخرجونى").

وقد اعتاد سلوانس الدخول فى الدهش الإلهى حتى أصبح يباغته وهو جالس بين الأخوة جهاراً: (حدث بينما كان الأب سلوانس جالساً بين الأخوة أن دخل فى الدهش الإلهى فجأة فسقط على وجهه، وظل مدة طويلة قام بعدها باكياً، فأخذ تلاميذه يتوسلون إليه أن يكشف لهم الأمر ولكنه ظل ساكتاً مدة. ولما شددوا عليه السئوال بإلحاح قال لهم: "لقد أُخذت حالاً إلى السماء ورأيت الله قائماً، ومنظر الدينونة، وإذا كثير من أصحاب طريقنا (الرهبان) يُساقون إلى العقاب وكثيرون من الذين فى العالم أعطوا أن يدخلوا ملكوت الله". وأخذ القديس بعدها يبكى ورفض أن يخرج من قلايته مدة، وعندما أُكره على الخروج كان يحجب عينيه عن نور النهار قائلاً: "أى ربح لنا فى هذا النور؟").

ولم يكن سلوانس فى ذلك متذمراً على النور الذى فى العالم، ولكنه كان قد أشرق فى قلبه نور آخر حجب عنه كل لذة وكل اهتمام بنور الدنيا وجمالها وأمجادها، فقد حُكى عنه: (لقد عُرف عن الآباء أن بامو كان يضئ كوجه موسى الذى لما تسلم مجد آدم الأول أضاء وجهه وكان كمثل ملك جالس على عرشه، وكان سلوانس كذلك وشيشوى أيضاً).

سلوانس مع الأب يوسف:

وكان الأب سلوانس يعيش مع الأب الكبير يوسف فى بدء حياته وقد تعلم منه كثيراً من الحكمة، لأن الأب يوسف كان مدبراً من أعلى طراز، وقد علمنا من سيرته أنه كان هو وتلاميذه لا يُصلون طالما كان عندهم زوار، ولا يأكلون أكلهم النسكى إلا فى ستر، ولم يكن يعلم أحد بتدبيرهم، فلما كان يأتيهم ضيف، كانوا يقدمون له أفخر الأطعمة والنبيذ ويأكلون ويشربون معه، فإذا خلدوا لأنفسهم كانوا يأكلون اللقمة يابسة، ويشربون الماء مالحاً، ولا يكفون عن الصلوات.

 

سلوانس ينطلق إلى سيناء بعد الغارة:

وقد حل بسلوانس ما حل بالشيوخ العظام مثل يوحنا القصير وبيشوى وأرسانيوس وإشعياء وبيمن وأنوب وإخوتهما وبقية الآباء، فقد تشتتوا جميعاً بعد غارة البربر الأولى سنة 407م، وكان نصيب سلوانس أن انطلق مع بعض تلاميذه إلى سيناء وعاش فيها، وعمَّر موضعاً كبيراً للرهبان بالمكان المعروف فى التوراة باسم "وادى جرار". وقد أخبرنا المؤرخ سوزومين عن ذلك بقوله: "وإنى أعتقد أن سلوانس كان موطنه فلسطين، الذى بسبب فضائله العالية رأى الشيوخ ملاكاً يخدم معه (الصلوات). وكان يمارس الفلسفة فى مصر (أى فلسفة الحياة النسكية)، ثم عاش فى سيناء، وعرج إلى وادى جرار، وأسس هناك ديراً عظيماً مشهوراً يتسع لعدد كبير من النساك الفضلاء، وقد أقيم زكريا تلميذه من بعده رئيساً عليه). ولكننا نعلم علماً يقيناً من كتاب أقوال الآباء (النسخة السريانية) أن سلوانس عاد إلى شيهيت مرة أخرى بدعوة من الأب الكبير يوسف، واستقبله الآباء بفرح لا يوصف، وذلك فى قصة طويلة ممتعة نكتبها هنا لمنفعة جيلنا، لعل فيها تذكرة للعودة إلى صلابة المنهج  النسكى الآبائى.

صلابة المنهج النسكى عند الآباء:

 (حدث فى شيهيت  أن لاحظ الأخوة أن الأب يوسف الكبير أصبح حزيناً وقد صار فى ضيق عظيم، فسألوه أن يحكى لهم عن سبب كآبته الشديدة ولكنه آثر الصمت جداً. فابتدأوا يتساءلون فيما بينهم ما عسى أن يكون سبب حزن الشيخ، هذا الحزن الذى صار لا يحتمل: "لأنه هوذا لنا الآن سنين كثيرة وهو يحيا بيننا ولم نره من قبل حزيناً متألماً بمثل هذا المقدار؟ لربما نكون قد أسأنا للرجل فى شئ؟" وأخيراً جاءوا إليه وطرحوا أنفسهم عند قدميه: "لربما يا أبانا نكون نحن السبب فى حزنك؟ فإن كان كذلك فسامحنا من أجل خاطر يسوع!" فأجابهم الشيخ وهو ما زال فى حزنه: "اغفروا لى يا أخوتى فأنا لست متضايقاً منكم ولكنى متضايق من نفسى، لأنى أرى نفسى أعود إلى الوراء ولا أسير إلى قدام وأنا العلة فى الخسارة التى أصابتنى، ليس وحدى فقط بل والآخرين أيضاً معى. فها أنا أرى أننا نخسر أنفسنا على طول الطريق أكثر من أى وقت مضى، حتى خسرنا كل ماربحناه سابقاً من الرب، لأن عدم الحياء وعدم مخافة الله ملكت علينا، ففيما مضى حينما كان يجتمع الآباء معاً كانوا يدفعون بعضهم بعضاً إلى فوق نحو السماء، ولكننا أصبحنا قطيعاً منحلاً والخطية أماتت أنفسنا؛ وإذا اجتمع بعضنا مع بعض نتكلم بما لا يليق نحو بعضنا البعض، فأصبح الواحد منا يشد الآخر ليدفعه نحو جهنم، وأصبحنا لا نكتفى بخسارة أنفسنا بل كل أخ جديد يأتى إلينا أو كل غريب يحل فى وسطنا أو حتى كل زائر يأتينا من العالم يعثر ويخسر بسببنا!! لقد جاء إلىَّ من مدة الأب سلوانس والأب لوط وتكلموا معى بسبب هذا الأمر قائلين: "نحن لن نسكن هنا بعد ذلك." فلما سألتهم السبب فى ذلك قالوا: "نحن إلى هذا اليوم كنا ننتفع بسكنى الآباء، ولكن منذ أن رقد أنبا باموا وأنبا أغاثون وأنبا بترا وتركنا أنبا يوحنا (القصير) استخف الأخوة بوصايا الآباء والشيوخ، فأصبحنا لا نقيم وزناً لأوامرهم وقوانينهم التى وضعوها لحياتنا. وأصبحت اجتماعاتنا معاً سبب خسارة أكثر فأكثر كل مرة، بسبب الكلام فى الأمور التى لا تنفع، وعندما نجلس على المائدة لا يضبطنا خوف الله، ولا حتى ينشغل قلبنا بالشكر والحمد من أجل الطعام الذى أرسله لنا الله بل نتلهى بالحديث معاً ونظل نحكى فى الفارغ، وهكذا لا يستطيع الواحد منا أن يفهم أو يتابع ما يُقرأ علينا أثناء الأكل بسبب الضوضاء التى نصنعها. وحتى بعد أن نقوم عن المائدة نظل نتكلم فى الفارغ. فما هى الفائدة بعد ذلك من المعيشة فى البرية ونحن لا نربح شيئاً؟" ثم تكلم الأب لوط أيضاً: "كم مرة سمعت بنفسى ما يقوله الأخوة الغرباء ومن العلمانيين أننا أصبحنا نسلك فى وصايا الآباء بانحلال، وسمعتهم مرة يقولون عنا بهذه الكيفية من غير المعقول أن نُدعى رهباناً‍‍!! وقد سمعت أحد الأخوة الزائرين يقول: "إنى قد لاحظت فى مجيئى سنة بعد سنة أن الرهبان ينحلون شيئاً فشيئاً ويهملون وصايا الآباء قليلاً قليلاً." فالآن ماذا تريدون أيها الأخوة؟ هل أنتم مستعدون أن ترجعوا عن انحلالكم وتمسكوا بوصايا الآباء بكل اعتناء واهتمام، أو أرحل أنا أيضاً بعيداً عنكم؟" وحدث لما سمع الأخوة هذا الكلام أن دقوا الناقوس فاجتمع جميع الرهبان وأعاد أنبا يوسف عليهم هذا الكلام عينه، فلما سمع الجمع هذه الأمور وعلموا بحزن الأب يوسف وتوجعه وأنه مزمع على الرحيل أيضاً سقطوا جميعاً على وجوههم باكين، وأخذوا يتوسلون لديه بانسحاق وانكسار قلب قائلين: "سامحنا أيها الأب من أجل خاطر يسوع فقد أغضبنا الله بأعمالنا، ونحن السبب فى كل أحزان نفسك."

  وابتدأوا يشرحون له معتذرين: "لماذا لم تغضب علينا منذ أن سمعت من الآباء عن (ضعفنا)؟ ولكن الآباء لم يتركونا بالرغم من أننا لم نقم من رقادنا وتوانينا، ولكن ماذا نعمل فالشيوخ لم يعلمونا والقديسون لم يكونوا يجلسون فى وسطنا كالمعتاد ولا كانوا يأخذون موضعهم على المائدة معنا. فكلنا يشتهى أن يسمع تاريخ الشيوخ وسيرتهم ووصاياهم سواء على المائدة أو حينما نجتمع معاً، ولكننا محرومون من سماع كلامهم؟"

  ثم استطرد الأب إيليا معتذراً: "إن الأب ابراهام والأب يوحنا كانا يتحدثان معنا كثيراً أثناء المائدة، وفى الأوقات التى كنا نجتمع فيها للقراءة وأثناء الخدمة." وابتدأ الأخوة يحتجون بحزن وانفعال شديد.

 فلما رأى الأب يوسف أن الجماعة كلها قد تحرك قلبها والكل يتوجع، طلب منهم أن يهدأوا وينصتوا قائلاً: "اطلب إليكم أيها الأخوة أن تكفوا عن هذا التشويش فالله دعانا للسلام. فالآن أنا أدعوكم أن تصلوا وتتوسلوا لدى الله أن يصرف عنا جماعة الشياطين التى احدقت بنا لتقاومنا، فأنا أراهم أنهم قد استعدوا ضدنا بغضب، وهم مزمعون أن يمزقونا إذا لم تتداركنا رحمة الله ومعونته."

 وبصعوبة استطاع الأب يوسف أن يهدئ روع الجماعة، وابتدأ بنفسه يسبح المزمور: "فلترتد سيوفهم إلى نحورهم ولتنكسر أقواسهم وليصيروا مثل العصافة التى تذريها الريح. فليقم الله ولتتبدد جميع أعدائه. يارب خلصنى يارب كن معى وأعنى." وابتدأوا خدمة المزامير معاً وسبحت كل الجماعة وختمت الصلاة، ثم قالوا فى الختام بنفس واحدة: "قدوس الله قدوس القوى قدوس الحى الذى لا يموت ارحمنا." وركعوا جميعاً وصلوا، وأثناء الصلاة سمعت أصوات الشياطين فى الهواء ومعها أصوات آلات حرب! وقام الآباء من ركوعهم بعد أن سكبوا أنفسهم فى الصلاة وبلوا الأرض بدموعهم، وعادوا فقدموا توبتهم ومطانيتهم للأب يوسف قائلين: "سامحنا وصلِّ إلى الله ليسامحنا لأننا أخطأنا وأغضبنا الله." فقال لهم الأب يوسف: "قوموا انهضوا يا أخوة والتفتوا إلى حياتكم، فقد سمعتم بأنفسكم الشياطين كيف تسعى لهلاكنا، تصالحوا كل واحد مع أخيه واصفحوا عن كل إساءة لكل إنسان من كل القلب. واربطوا قلوبكم بمحبة الرب ومحبة بعضكم البعض بغيرة حارة وضمير نقى. واقتربوا من الله ليقترب الله إليكم، وقفوا بعزم قبالة حروب الشيطان فإذا حفظتم وصايا الآباء بالحق فأنا سأكون ضميناً لكم (أمام الله) أن الشيطان لن يؤذيكم، وأن البربر لن يأتوا هنا، ولكن لو أهملتم وصايا الآباء فصدقونى أن هذا المكان سيصير خراباً."

 فندم الأخوة جداً وتابوا كل واحد من نحو أخيه، وتصالحوا معاً، وبدأوا يعيشون فى محبة وسلام. ووضعوا على أنفسهم قانوناً فى ذلك اليوم أن يضبط كل إنسان نفسه ضد أى توانٍ أو إهمال أو عدم مخافة الله، وأن لا يتكلموا قط على المائدة ولا يتحركوا حركة واحدة. وقرروا معاً أنه إذا وجد أى واحد مزدرياً بوصايا الآباء أو مستخفاً بقوانينهم وصار سبب عثرة أو خسارة سواء لنفسه أو لأخوته أو للزائرين، فإنه يكون قد جلب على نفسه العقوبة، ويكون قد حكم على نفسه أنه أصبح غريباً عن جسم الجماعة كلها.

  وأرسل الأب يوسف رسولاً إلى حيث الأب سلوانس والأب لوط يدعوهما. فلما علم هذان القديسان ما حدث فى شيهيت مع الأخوة، وأنهم قد وضعوا قوانين صارمة لحفظ وصايا الآباء، سبحا الله وقاما معاً وأتيا إلى شيهيت، ولما وصلا قابلهما الأب يوسف، ولما سلم عليهما بكيا. فأعلمهما الأب يوسف بكل ما حدث، فمجدوا الله الذى لم يتخل عن الذين يخافونه. أما بخصوص القوانين والتعليمات التى وضعوها معاً فقد التزم بها الأخوة وطبقوها فى حياتهم كل الأيام، وتنيحوا فى شيخوخة صالحة بعد حياة مفرحة لقلب الله).

وهكذا يكون سلوانس قد بدأ حياته المبكرة تلميذاً لأنبا مقار، وحضر غارة البربر الأولى سنة 407م، وذهب إلى سيناء وعاش هناك فترة طويلة، وعاد بعدها إلى شيهيت بدعوة من الأب يوسف الكبير، حيث أكمل جهاده فيها بشيخوخة صالحة.

وفى نهاية هذه السيرة الحلوة العطرة برائحة النسك الأصيل والأمانة المطلقة لطريق الآباء، والأفق المتسع بالرؤيا الصحيحة، مع التدقيق الفائق فى السلوك، لا يسعنا إلا أن ننحنى أمام روح القديس سلوانس المبارك نطلب شفاعته، ذاكرينه فى كل أول برمودة، اليوم الذى انطلقت فيه روحه الصالحة إلى ملكوت الله. اشفع فينا أيها القديس سلوانس ليعطينا الله أمانة فى طريق نسكنا وخاتمة صالحة كما أعطاك.