25 بشنس:  نياحة الأرخن الكريم المعلم إبراهيم الجوهرى 

وفي مثل هذا اليوم أيضا من سنة 1511 للشهداء الأبرار تنيح الأرخن العظيم والمحسن الكريم المعلم إبراهيم الجوهري. نشأ هذا الرجل الكامل والعصامي الكريم، في القرن الثامن عشر للميلاد، من أبوين فقيرين متواضعين. وكان اسم والده يوسف جوهري، وكانت صناعته الحياكة في بلدة قليوب. وكان أبواه مملوئين نعمة وإيمانا. ربياه التربية الدينية في كتاب البلدة، فتعلم الكتابة والحساب وأتقنهما، واشتهر منذ حداثته بنسخ الكتب الدينية. وتقديمها إلى الكنائس على نفقته الخاصة. وكان يأتى بما ينسخه من الكتب إلى البابا يوحنا الثامن عشر والبطريرك السابع بعد المائة. الذى تولى الكرسي من سنة 1486 إلى 1512 للشهداء ( 1769-1796 م).

وقد لفتت أنظار هذا البابا كثرة الكتب التى قدمها إبراهيم الجوهري وكثرة ما تكبده من النفقات في نسخها وتجليدها، فاستفسر منه عن موارده، فكشف له إبراهيم عن حاله فسر البابا من غيرته وتقواه، وقربه إليه وباركه قائلا: "ليرفع الرب اسمك ويبارك عملك وليقيم ذكراك إلى الأبد." وتوثقت العلاقات بعد ذلك بينه وبين البابا.

والتحق إبراهيم في بدء أمره بوظيفة كاتب لأحد أمراء المماليك، ثم توسط البابا لدى المعلم رزق رئيس الكتاب وقتئذ، فاتخذه كاتبا خاصا له واستمر في هذه الوظيفة إلى آخر أيام على بك الكبير الذى ألحقه بخدمته. ولما تولى محمد بك أبو الدهب مشيخة البلاد، اعتزل المعلم رزق رئاسة الديوان وحل محلة المعلم إبراهيم، فسطع نجمه من هذا الحين. ولما مات أبو الدهب وخلفه في مشيخة البلاد إبراهيم بك، تقلد المعلم إبراهيم رئاسة كتاب القطر المصري وهى أسمى الوظائف الحكومية في ذلك العصر وتعادل رتبة رئاسة الوزارة.

ولم يؤثر هذا المنصب العظيم في أخلاق إبراهيم الجوهري بل زاده تواضعا وكرما وإحسانا حتى جذب إليه القلوب، ومن فرط حب إبراهيم بك له، أولاه ثقته حتى آخر نسمة من حياته، فأخلص له الجوهري كل الإخلاص. وتزوج المعلم إبراهيم من سيدة فاضلة تقية شاركته في أخلاقه الطيبة، وعاونته فى أعمال البر والإحسان، وشجعته على تعمير الكنائس. ورزق منها بولد اسمه يوسف وابنه اسمها دميانه وكان يقطن بجهة قنطرة الدكة.

ولما ترعرع ابنه، عزم على تأهيله فأعد له دارا خاصة به جهزها بأفخر المفروشات وأثمن الأواني والأدوات، واستعد لحفلة الزفاف، ولكن شاءت إرادة الله أن تختاره وتضمه إلى الأحضان الإبراهيمية قبل زواجه، فحزن عليه والداه حزنا شديدا، وأغلق المعلم إبراهيم الدار التى جهزها له وبقيت مغلقة إلى أن نهبت.

وقد كان لوفاة هذا الابن الوحيد، أثر كبير في نفس إبراهيم وزوجته، فازداد رغبة في مساعدة الأرامل واليتامى والمساكين. وتعزية الحزانى والمنكوبين، فأدهش جميع عارفيه بصبره الغريب واحتماله آلام الفراق، وخيبة الأمل. ولما أرادت  زوجته الاعتراض على أحكام الله، ترآى لها القديس أنطونيوس الكبير كوكب البرية في حلم وعزاها قائلا: "أعلمي يا ابنتي أن الله أحب ولدك، ونقله إليه شابا كما أحب والده لحكمه قصدها، لحفظ اسم المعلم الكبير نقيا، إذ ربما أفسد ولده شهرته، وعاب اسمه. وهذا خير جزاء من الله تعالى لزوجك على بره وتقواه، فتعزيا وتشجعا واستأنفا أعمالكما المرضية." قال هذا واختفى. وقد ترآى القديس أنطونيوس في الوقت ذاته للمعلم إبراهيم وعزاه وشجعه. ولما استيقظت الزوجة توجهت إلى زوجها، وقصت عليه الرؤيا، فأجابها بأنه رأى نفس الرؤيا في هذه الليلة، فسلما الأمر لله، واستبدلا لباس الحداد باللباس العادى، وامتلأ قلباهما عزاء وشاركته زوجته في جميع أعماله الخيرية وصدقاته، حتى يوم وفاته. وقد توفيت كريمته دميانة بعده بزمن قليل، وهى عذراء في ريعان الشباب.

استمر المعلم إبراهيم في رئاسة الديوان حتى حصل انقلاب في هيئة الحكام، وحضر لمصر حسن باشا قبطان، موفدا من الباب العالي فقاتل إبراهيم بك شيخ البلد، ومراد بك أمير الحج، واضطرهما للهرب إلى أعالي الصعيد، ومعهما إبراهيم الجوهري، وبعض الأمراء وكتابهم. ودخل قبطان باشا القاهرة، فنهب البيوت، وأنزل الظلم والعدوان بالأهالي، واضطهد المسيحيين ومنعهم من ركوب الدواب المطهمة، و من استخدام المسلمين في بيوتهم ، ومن شراء الجواري والعبيد وألزمهم بشد الأحزمة ، وتسلط العامة عليهم فاختبئوا في بيوتهم وكفوا عن الخروج أياما. وأرسل يطلب من قاض القضاة، إحصاء ما أوقفه المعلم إبراهيم الجوهري عظيم الأقباط على الكنائس والأديرة من أطيان وأملاك وغير ذلك. وبسبب هذه الأحوال اختفت زوجة المعلم إبراهيم الجوهري في بيت أحد المسلمين. وكان لزوجها عليه مآثر كبيرة، فبحث عنها أعوان السوء ناكروا الجميل والإحسان، ودلوا حسن باشا على مكان اختفائها، فأجبرها على الاعتراف بأماكن مقتنياتهم، فأخرجوا منها أمتعة وآواني ذهب وفضة وسروج وغيرها بيعت بأثمان غالية ودل بعضهم على مسكن المرحوم يوسف ابن المعلم إبراهيم فصعدوا إليه وأخرجوا كل ما فيه من المفروشات وأثمن الأواني والأدوات، وأتوا بها إلى حسن باشا فباعها بالمزاد وقد استغرق بيعها عدة أيام لكثرتها. واستمر حسن باشا في طغيانه إلى أن استدعى إلى الأستانة، فبارحها غير مأسوف عليه وبعد فترة عاد إبراهيم بك ومراد بك إلى منصبيهما ودخلا القاهرة في 7 أغسطس سنة 1791م وعاد المعلم إبراهيم الجوهري واستأنف عمله وعادت إليه سلطته ووظيفته، ولكنه لم يستمر أكثر من أربع سنوات وقد ظل محبوبا من الجميع لآخر أيامه.

وقد أطلق عليه الناس لقب سلطان الأقباط كما دل على ذلك نقش قديم على حجاب أحد هياكل كنائس دير الأنبا بولا بالجبل الشرقي ، والكتابة المدونة على القطمارس المحفوظ في هذا الدير أيضا.

وقال عنه الجبرتى المؤرخ الشهير: "أنه أدرك بمصر من العظمة ونفاذ الكلمة وعظم الصيت والشهرة ـ مع طول المدة ـ ما لم يسبق لمثله من أبناء جنسه، وكان هو المشار إليه في الكليات والجزئيات، وكان من ساسة العالم ودهاتهم، لا يغرب عن ذهنه شئ من دقائق الأمور، ويدارى كل إنسان بما يليق به من المداراة، ويفعل ما يوجب انجذاب القلوب والمحبة إليه وعند حلول شهر رمضان كان يرسل إلى أرباب المظاهر ومن دونهم الشموع والهدايا. وعمرت فى أيامه الكنائس والأديرة وأوقف عليها الأوقاف الجليلة والأطيان، ورتب لها المرتبات العظيمة والأرزاق المستديمة والغلال."

وقال عنه الأنبا يوساب الشهير بابن الأبح أسقف جرجا وأخميم: "أنه كان من أكابر أهل زمانه وكان محبا لله يوزع كل ما يقتنيه على الفقراء والمساكين، مهتما بعمارة الكنائس. وكان محبا لكافة الطوائف. يسالم الكل ويحب الجميع ويقضى حوائج الكافة ولا يميز واحدا عن الأخر في قضاء الحق."

هذا مختصر حياته العامة. أما عمله الطائفي فيمكن تلخيصه فيما يأتى:

اشتهر المعلم إبراهيم الجوهري بحبه الشديد لتعمير الكنائس والأديرة و إصلاح ما دمرته يد الظلم. فبواسطة نفوذه الحكومى، وما له من الأيادي البيضاء على الحكام المسلمين، تمكن من استصدار الفتاوى الشرعية بالسماح للأقباط بإعادة ما تهدم من الكنائس والأديرة، وأوقف الأملاك الكثيرة والأراضي والأموال لإصلاح ما خرب منها وقد بلغت حجج تلك الأملاك 238 حجة مدونة في كشف قديم محفوظ بالدار البطريركية.

كما اشتهر بنسخ الكتب الثمينة النادرة، وإهدائها لجميع الكنائس والأديرة، فلا تخلو كنيسة من كتبه وآثاره. وهو أول من سعى في إقامة الكنيسة الكبرى بالازبكية، وكان محرما على الأقباط في الأزمنة الغابرة أن يشيدوا كنائس جديدة أو يقوموا بإصلاح القديم منها، إلا بأذن من الهيئة الحاكمة، يحصلون عليه بعد شق الأنفس. فاتفق أن إحدى الأميرات قدمت من الأستانة إلى مصر لقضاء مناسك الحج، فباشر المعلم إبراهيم بنفسه أداء الخدمات اللائقة بمقام هذه الأميرة، وأدى لها الواجبات اللازمة لراحتها وقدم لها هدايا نفيسة، فأرادت مكافأته وإظهار اسمه لدى السلطان فالتمس منها السعي لإصدار فرمان سلطاني بالترخيص له ببناء كنيسة بالازبكية، حيث يوجد محل سكنه، وقدم لها بعض طلبات أخرى خاصة بالأقباط والإكليروس فأصدر السلطان أمرا بذلك. ولكن عاجلته المنية قبل الشروع في بناء الكنيسة فأتمها أخوه المعلم جرجس الجوهرى.

ولكي لا تتغير مواعيد الصلاة بكنيسة العذراء الكبرى بحارة زويلة لعامة الشعب، قام بإنشاء كنيسة صغرى برسم الشهيد مرقوريوس أبى سيفين بجوارها، حتى يتمكن موظفو الحكومة من حضور القداس معه فيها، بما يتفق مع مواعيد العمل في مصالحهم وقام بتجهيز أصناف الميرون ومواده علي حسابه الخاص، وإرسالها بصحبة أخيه المعلم جرجس لغبطة البابا البطريرك بالقلاية العامرة.

وفي سنة 1499ش (1783م). بنى المعلم إبراهيم السور البحري جميعه وحفر ساقية لدير كوكب البرية القديس أنطونيوس بعد أن اهتم ببناء هذا السور من القبلي والغربي في سنة 1498ش ويعرف إلى الآن باسم سور الجوهري. وقام أيضا بتجديد مباني كنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم فى سنة 1508ش ( 1792م) وشيد كنيسة الشهيد أبى سيفين بدير أنبا بولا في الجبل الشرقي. وشيد بدير البراموس كنيسة أنبا أبللو وأنبا أبيب ( ولكنها هدمت في سنة 1881م لتوسيع كنيسة مار يوحنا) وقصر السيدة بالبرموس وقصر السيدة بالسريان، وأضاف إلى دير البراموس خارجة من الجهة القبلية، وبنى حولها سورا وبلغت مساحتها 2400 مترا مربعا. وبالاختصار بنى كنائس كثيرة وعمر البرارى وبنى الأديرة واهتم بالرهبان الساكنين فيها، وفرق القرابين، وأيضا الشموع والزيت والستور وكتب البيعة علي كل كنيسة، في أنحاء القطر المصري، ووزع الصدقات على جميع الفقراء والمساكين في كل موضع، واهتم لهم بالطعام والكسوة، وكذا الأرامل واليتامى الذين ليس لهم من يهتم بهم، ورتب لهم في كل شهر ما يقوم بكفايتهم، وذلك حسب ما شهد له به ابن الأبح في مرثية البابا يؤنس البطريرك ال ( 107 ). وظل على هذا الحال إلى أن انتقل إلى دار الخلود في يوم الاثنين 25 بشنس سنة 1511 ش ( 31 مايو سنة 1795 م ) فحزن عليه الجميع كما أسف على وفاته أمير البلاد إبراهيم بك، فسار في جنازته إكراما له وتقديرا منه لمقامه السامي، ورثاه البابا يؤنس الذى كان يخصه بعظيم محبته وقد دفنه في المقبرة الخاصة التى بناها لنفسه بجوار كنيسة مارجرجس بمصر القديمة وأوقف على هذه المقبرة وقفا يصرف ريعه على (قنديل لا يطفأ ليلا ونهارا ).

نعم. مات هذا الرجل كما مات آباؤه وأجداده من قبله. مات ولم يترك نسلا، ولكن ذكراه باقية لأن ذكر الصديق يدوم إلى الأبد .

وقد اهتمت جمعية نهضة الكنائس القبطية الأرثوذكسية بالقاهرة بتجديد مقبرة الجوهري بدرب التقا بمصر القديمة، فأصبحت كعبة المعجبين بأعمال هذين الأخوين البارين.

أما سيرة أخيه المعلم جرجس الجوهري فهي مدونة في اليوم السابع عشر من شهر توت سنة 1557ش 27 سبتمبر سنة 1810 م  ـ يوم تذكار نياحته ـ  ولربنا المجد دائما. أمين.