10 بؤونة: الأب يوسف الكبير

عن كتاب: الرهبنة القبطية الأب متى المسكين 

          يوجد ثلاثة أشخاص يحملون هذا الاسم والثلاثة لهم أقوال فى بستان الرهبان، وفى كتاب أقوال الآباء، لذا يلزم التفريق بينهم.

          الأول: الأب يوسف الذى نزل عنده كاسيان أول ما وصل إلى مصر عند ميناء تانيس على بحيرة المنزلة، وكان هذا الأب ضمن ثلاثة رؤساء على متوحدى منطقة تانيس وبانوفيس كلها، وهم الآباء يوسف ونستير وشيرامون، وقد أخذ كاسيان أقوالاً عنهم فى مواضيع شتى، لذلك فكل الأقوال الواردة للأب يوسف فى البستان أو كتاب الأبوفثجم ويذكر فيها اسم نستير أو أسماء أخرى غير أسماء جماعة شيهيت، أو يذكر فيها شربهم للماء المخلوط نصفه من النهر ونصفه من البحر، فهى أقوال تخص الأب يوسف التانيسى. وهذا الأب كما وصفه لنا كاسيان كان من أسرة غنية كبيرة، وكان متقلداً وظيفة رئيس مدينة على مدينة تمويس قبل رهبنته، وكان متضلعاً فى اللغة اليونانية، وعالماً فاضلاً، وهذا تحققه أقواله التى أخذها عنه كاسيان والمسجلة فى المحادثات.

          الثانى: هو الأب يوسف أحد الأخوة السبعة الذين ترهبوا معاً وهم: أنوب ويعقوب وبيمن ويوسف وبائيسوس وبولا و(؟).

          ويبدو فى جميع الأقوال التى جاءت عنه أنه أصغر من بيمن، وفى موقف من يسأل عن أمور كثيرة ومنها الصوم والأفكار النجسة لأنه كان وقتها شاباً بالنسبة لبيمن.

          الثالث: وهو القديس يوسف الكبير ـ موضع هذه السيرة، تتلمذ على يد كل من الأب أنطونيوس والأب مقاريوس، وعاش وتنيح فى شيهيت، وارتفع اسمه وصيته حوالى عام 350م. وهو الوحيد من بين الشخصيات التى دُعيت باسم يوسف الذى قننته الكنيسة وأعطته لقب قديس، وله تذكار فى 17 يونيو حيث تتشفع الكنيسة بصلواته. وكان أباً عالماً فاضلاً قديساً حكيماً فى تدبيره الرهبانى إلى أقصى حد، وكان له تلاميذ كثيرون.

          ويوسف هذا هو فى الواقع ذلك الصبى الذى حمله أبوه بعد الفطام مباشرة وأخذه معه إلى البرية وترهب معه، فشب يوسف على حياة الشظف والنسك والجهاد، وتفتحت كل مواهبه أول ما تفتحت على فردوس الشيوخ وعلى معنى القداسة، ولما بلغ دور الشباب شكى لأبيه عن أفكار الشهوة وكيف أن أفكاره تقلقه بخصوص النزول إلى العالم، فنصحه أبوه بالتريث وأعطاه خبزاً جافاً وليفاً وخوصاً يكفى لأربعين يوماً وقال له: "اذهب منفرداً إلى البرية الداخلية وعش هناك إلى أن يقول الله كلمته." فأطاع الشاب، وكان أن تعمق بالروح فانكشف له بالمنظر المعقول جوهر الناحية الجنسية، فى صورة امرأة سوداء كريهة الرائحة تقول عن نفسها أن هذه هى حقيقتها حسب الواقع العملى، أما من حيث التصور الغريزى المخادع فتبدو جميلة ولذيذة لإغراء القلوب وهزيمة الضمائر. فلما انكشفت له حقيقة الإغراءات التى كانت تعصف بضميره كفت عنه حرب النجاسة، فقام لوقته وعاد لأبيه وبهجة الظفر تملأ وجهه مصمماً أن لا يرجع إلى العالم.

          وأول مصدر استقى منه يوسف معرفته الروحية كان هو القديس أنطونيوس، فكان يتردد عليه مع الأخوة كثيراً يسمع ويتعلم دون أن يسأل، وكان القديس أنطونيوس يمتدح حكمته، وكان ذلك حوالى سنة 350م. فلو قلنا أن عمره كان وقتئذ ثلاثين عاماً يكون مولده حوالى سنة 320م.

          وظل هذا الأب القديس يحمل روح الآباء الكبار وحكمتهم ويتغنى بمآثرهم وفضائلهم، يعلم ويعظ ويوبخ بكل حكمة وطول آناة من جيل إلى جيل، لأنه عمر كثيراً جداً حتى إلى ما فوق التسعين سنة، لأنه حضر غارة البربر الأولى سنة 407م وعاش بعدها أيضاً.

          وكان دائماً يقول: "نحن معشر إخوة هذا الزمان نأكل وننيح هذا الجسد (متكلماً عن الأخوة حوله)، ومن أجل ذلك لا ننمو مثل آبائنا، لأن آبائنا كانوا يبغضون جميع نياح الجسد ويحبون الضيقات من أجل الله، ولهذا اقتربوا من الله الحى."

          وكانت تعاليم القديس يوسف وأنبا بيمن متوافقة دائماً، وكانت قد أصبحت علامات ثابتة فى الطريق الرهبانى لدى أجيال الآباء، فنسمع الأخوة يقولون: "لأن أبا يوسف وأبا بيمن قسموا الحياة النسكية الكاملة إلى ثلاثة أقسام."

        وفى أواخر حياة هذا الأب القديس كان قد أصبح بمثابة أب ورئيس على كل جموع الرهبان فى شيهيت، وعندما مرت فترة فترت فيها الحياة الروحية للرهبان، استطاع الأب يوسف أن يعيد إلى الإسقيط كله الحرارة الروحية وروح النسك الأولى بعد أن كاد الجيل كله ينحل ويضعف. فكيف كان هذا:

        "حدث فى شيهيت  أن لاحظ الأخوة أن الأب يوسف الكبير أصبح حزيناً وقد صار فى ضيق عظيم، فسألوه أن يحكى لهم عن سبب كآبته الشديدة ولكنه آثر الصمت جداً. فابتدأوا يتساءلون فيما بينهم ما عسى أن يكون سبب حزن الشيخ، هذا الحزن الذى صار لا يحتمل: "لأنه هوذا لنا الآن سنين كثيرة وهو يحيا بيننا ولم نره من قبل حزيناً متألماً بمثل هذا المقدار؟ لربما نكون قد أسأنا للرجل فى شئ؟" وأخيراً جاءوا إليه وطرحوا أنفسهم عند قدميه: "لربما يا أبانا نكون نحن السبب فى حزنك؟ فإن كان كذلك فسامحنا من أجل خاطر يسوع!" فأجابهم الشيخ وهو ما زال فى حزنه: "اغفروا لى يا أخوتى فأنا لست متضايقاً منكم ولكنى متضايق من نفسى، لأنى أرى نفسى أعود إلى الوراء ولا أسير إلى قدام وأنا العلة فى الخسارة التى أصابتنى، ليس وحدى فقط بل والآخرين أيضاً معى. فها أنا أرى أننا نخسر أنفسنا على طول الطريق أكثر من أى وقت مضى، حتى خسرنا كل ماربحناه سابقاً من الرب، لأن عدم الحياء وعدم مخافة الله ملكت علينا، ففيما مضى حينما كان يجتمع الآباء معاً كانوا يدفعون بعضهم بعضاً إلى فوق نحو السماء، ولكننا أصبحنا قطيعاً منحلاً والخطية أماتت أنفسنا؛ وإذا اجتمع بعضنا مع بعض نتكلم بما لا يليق نحو بعضنا البعض، فأصبح الواحد منا يشد الآخر ليدفعه نحو جهنم، وأصبحنا لا نكتفى بخسارة أنفسنا بل كل أخ جديد يأتى إلينا أو كل غريب يحل فى وسطنا أو حتى كل زائر يأتينا من العالم يعثر ويخسر بسببنا!! لقد جاء إلىَّ من مدة الأب سلوانس والأب لوط وتكلموا معى بسبب هذا الأمر قائلين: "نحن لن نسكن هنا بعد ذلك." فلما سألتهم السبب فى ذلك قالوا: "نحن إلى هذا اليوم كنا ننتفع بسكنى الآباء، ولكن منذ أن رقد أنبا باموا وأنبا أغاثون وأنبا بترا وتركنا أنبا يوحنا (القصير) استخف الأخوة بوصايا الآباء والشيوخ، فأصبحنا لا نقيم وزناً لأوامرهم وقوانينهم التى وضعوها لحياتنا. وأصبحت اجتماعاتنا معاً سبب خسارة أكثر فأكثر كل مرة، بسبب الكلام فى الأمور التى لا تنفع، وعندما نجلس على المائدة لا يضبطنا خوف الله، ولا حتى ينشغل قلبنا بالشكر والحمد من أجل الطعام الذى أرسله لنا الله بل نتلهى بالحديث معاً ونظل نحكى فى الفارغ، وهكذا لا يستطيع الواحد منا أن يفهم أو يتابع ما يُقرأ علينا أثناء الأكل بسبب الضوضاء التى نصنعها. وحتى بعد أن نقوم عن المائدة نظل نتكلم فى الفارغ. فما هى الفائدة بعد ذلك من المعيشة فى البرية ونحن لا نربح شيئاً؟" ثم تكلم الأب لوط أيضاً: "كم مرة سمعت بنفسى ما يقوله الأخوة الغرباء ومن العلمانيين أننا أصبحنا نسلك فى وصايا الآباء بانحلال، وسمعتهم مرة يقولون عنا بهذه الكيفية من غير المعقول أن نُدعى رهباناً‍‍!! وقد سمعت أحد الأخوة الزائرين يقول: "إنى قد لاحظت فى مجيئى سنة بعد سنة أن الرهبان ينحلون شيئاً فشيئاً ويهملون وصايا الآباء قليلاً قليلاً." فالآن ماذا تريدون أيها الأخوة؟ هل أنتم مستعدون أن ترجعوا عن انحلالكم وتمسكوا بوصايا الآباء بكل اعتناء واهتمام، أو أرحل أنا أيضاً بعيداً عنكم؟" وحدث لما سمع الأخوة هذا الكلام أن دقوا الناقوس فاجتمع جميع الرهبان وأعاد أنبا يوسف عليهم هذا الكلام عينه، فلما سمع الجمع هذه الأمور وعلموا بحزن الأب يوسف وتوجعه وأنه مزمع على الرحيل أيضاً سقطوا جميعاً على وجوههم باكين، وأخذوا يتوسلون لديه بانسحاق وانكسار قلب قائلين: "سامحنا أيها الأب من أجل خاطر يسوع فقد أغضبنا الله بأعمالنا، ونحن السبب فى كل أحزان نفسك."

        وابتدأوا يشرحون له معتذرين: "لماذا لم تغضب علينا منذ أن سمعت من الآباء عن (ضعفنا)؟ ولكن الآباء لم يتركونا بالرغم من أننا لم نقم من رقادنا وتوانينا، ولكن ماذا نعمل فالشيوخ لم يعلمونا والقديسون لم يكونوا يجلسون فى وسطنا كالمعتاد ولا كانوا يأخذون موضعهم على المائدة معنا. فكلنا يشتهى أن يسمع تاريخ الشيوخ وسيرتهم ووصاياهم سواء على المائدة أو حينما نجتمع معاً، ولكننا محرومون من سماع كلامهم؟"

        ثم استطرد الأب إيليا معتذراً: "إن الأب ابراهام والأب يوحنا كانا يتحدثان معنا كثيراً أثناء المائدة، وفى الأوقات التى كنا نجتمع فيها للقراءة وأثناء الخدمة." وابتدأ الأخوة يحتجون بحزن وانفعال شديد.

        فلما رأى الأب يوسف أن الجماعة كلها قد تحرك قلبها والكل يتوجع، طلب منهم أن يهدأوا وينصتوا قائلاً: "اطلب إليكم أيها الأخوة أن تكفوا عن هذا التشويش فالله دعانا للسلام. فالآن أنا أدعوكم أن تصلوا وتتوسلوا لدى الله أن يصرف عنا جماعة الشياطين التى احدقت بنا لتقاومنا، فأنا أراهم أنهم قد استعدوا ضدنا بغضب، وهم مزمعون أن يمزقونا إذا لم تتداركنا رحمة الله ومعونته."

        وبصعوبة استطاع الأب يوسف أن يهدئ روع الجماعة، وابتدأ بنفسه يسبح المزمور: "فلترتد سيوفهم إلى نحورهم ولتنكسر أقواسهم وليصيروا مثل العصافة التى تذريها الريح. فليقم الله ولتتبدد جميع أعدائه. يارب خلصنى يارب كن معى وأعنى." وابتدأوا خدمة المزامير معاً وسبحت كل الجماعة وختمت الصلاة، ثم قالوا فى الختام بنفس واحدة: "قدوس الله قدوس القوى قدوس الحى الذى لا يموت ارحمنا." وركعوا جميعاً وصلوا، وأثناء الصلاة سمعت أصوات الشياطين فى الهواء ومعها أصوات آلات حرب! وقام الآباء من ركوعهم بعد أن سكبوا أنفسهم فى الصلاة وبلوا الأرض بدموعهم، وعادوا فقدموا توبتهم ومطانيتهم للأب يوسف قائلين: "سامحنا وصلِّ إلى الله ليسامحنا لأننا أخطأنا وأغضبنا الله." فقال لهم الأب يوسف: "قوموا انهضوا يا أخوة والتفتوا إلى حياتكم، فقد سمعتم بأنفسكم الشياطين كيف تسعى لهلاكنا، تصالحوا كل واحد مع أخيه واصفحوا عن كل إساءة لكل إنسان من كل القلب. واربطوا قلوبكم بمحبة الرب ومحبة بعضكم البعض بغيرة حارة وضمير نقى. واقتربوا من الله ليقترب الله إليكم، وقفوا بعزم قبالة حروب الشيطان فإذا حفظتم وصايا الآباء بالحق فأنا سأكون ضميناً لكم (أمام الله) أن الشيطان لن يؤذيكم، وأن البربر لن يأتوا هنا، ولكن لو أهملتم وصايا الآباء فصدقونى أن هذا المكان سيصير خراباً."

        فندم الأخوة جداً وتابوا كل واحد من نحو أخيه، وتصالحوا معاً، وبدأوا يعيشون فى محبة وسلام. ووضعوا على أنفسهم قانوناً فى ذلك اليوم أن يضبط كل إنسان نفسه ضد أى توانٍ أو إهمال أو عدم مخافة الله، وأن لا يتكلموا قط على المائدة ولا يتحركوا حركة واحدة. وقرروا معاً أنه إذا وجد أى واحد مزدرياً بوصايا الآباء أو مستخفاً بقوانينهم وصار سبب عثرة أو خسارة سواء لنفسه أو لأخوته أو للزائرين، فإنه يكون قد جلب على نفسه العقوبة، ويكون قد حكم على نفسه أنه أصبح غريباً عن جسم الجماعة كلها.

        وأرسل الأب يوسف رسولاً إلى حيث الأب سلوانس والأب لوط يدعوهما. فلما علم هذان القديسان ما حدث فى شيهيت مع الأخوة، وأنهم قد وضعوا قوانين صارمة لحفظ وصايا الآباء، سبحا الله وقاما معاً وأتيا إلى شيهيت، ولما وصلا قابلهما الأب يوسف، ولما سلم عليهما بكيا. فأعلمهما الأب يوسف بكل ما حدث، فمجدوا الله الذى لم يتخل عن الذين يخافونه. أما بخصوص القوانين والتعليمات التى وضعوها معاً فقد التزم بها الأخوة وطبقوها فى حياتهم كل الأيام، وتنيحوا فى شيخوخة صالحة بعد حياة مفرحة لقلب الله."

        اشفع فينا أمام الله أيها الأب القديس يوسف ليعطينا الطهارة ومحبة النسك كما أعطاك.