25 مسرى: نياحة القديس البابا مكاريوس الثالث البطريرك 114 

وفى مثل هذا اليوم من سنة 1661 ش (31 أغسطس سنة 1945 م) تنيح البابا القديس مكاريوس الثالث البطريرك الرابع عشر بعد المائة .

ولد فى مدينة المحلة الكبرى فى 18 فبراير سنة 1872م من أسرة عريقة، مشهورة بأسرة القسيس، امتازت بالفضيلة والتدين، فنشأ منذ نعومة أظافره فى وسط متدين تقى، تلقى علومه الابتدائية والثانوية بالمحلة الكبرى وطنطا. زاهداً مولعاً بالوحدة، مهتماً بحفظ الألحان الكنسية. ولما بلغ السادسة عشر هجر العالم وقصد دير القديس أنبا بيشوى بوادى النطرون فى سنة 1888م  ليحقق رغبته فى العبادة والزهد. وكان اسمه الراهب عبد المسيح. فتفرغ للعبادة ودرس الكتاب المقدس والكتب الكنسية والطقوس القبطية. وسرعان ما ظهرت فضائله وتقواه، وذاعت سمعته الطاهرة بين الرهبان وقد امتاز بنسخ الكتب وحسن الخط القبطى والعربى. كما أتقن فنون الزخرفة القبطية الدينية. وبعد أن سيم قساً قضى فى الحياة النسكية الطاهرة نحو ست سنوات، ثم توجه إلى دير البراموس سنة 1895م. حيث سامه البابا كيرلس الخامس قمصا وكاتما لأسراره، كما كلفه بالتدريس فى مدرسة الرهبان، وأسند إليه تدريس اللغتين القبطية والفرنسية، وكان فى نيته أن يرسمه مطرانا لكرسى مصر. ولكنه بعد مضى 25 شهرا على وصول القمص عبد المسيح إلى القاهرة، انتقل إلى رحمة الله الأنبا ميخائيل أسقف أسيوط. فحضر إلى القاهرة وفد من أسيوط، ووقع اختيارهم على هذا القمص الجليل، وزكوه مطراناً لأسيوط، فلم يقبل البابا فى بادىء الأمر طلبهم لأنه كان يحتفظ به ليقيمه مطران للقاهرة ومساعدا لغبطته فى إدارة شئون الكرازة المرقسية.

ولما ألح الوفد فى الطلب واشتدوا فى الرجاء قبل البابا اختيارهم لـه مطرانا لأسيوط فى11 يوليو 1897م (5 أبيب 1613 ش) وكان وقتئذ فى الرابعة والعشرين، وسماه مكاريوس. فذهب إلى مقر كرسيه وهو شاب يافع لا سلاح له إلا تقواه وزهده وعلمه فشمر عن ساعد جده وماضى عزمه وحنكة الشيوخ وتجربتهم رغم حداثة سنة، فى ضم الشتات وتركيز العقيدة، فحفظ للشعب وحدته وللكنيسة مقامها وقدسيتها، ونجح نجاحا باهرا. ولم يكتف بالبرنامج الذى وضعه للإصلاح الكنسى، بل عقد مؤتمرا قبطياً عظيماً فى مدينة أسيوط سنة 1910م، رغم الاعتراضات التى قامت فى سبيله. ولم يكتف بذلك بل قدم للبابا كيرلس الخامس فى أول سنة 1920م رسالة عن المطالب الإصلاحية المالية، بالاشتراك مع زميله الأنبا ثاؤفيلس أسقف منفلوط وأبنوب وقتئذ، مما دل على عظم كفاءته ورغبته فى إعلاء كلمة الحق.

ولما تنيح البابا كيرلس الخامس فى سنة 1928م، رشحه الشعب للكرسى البطريركى لتحقيق مطالب الإصلاح ولكن حالت الظروف وقتئذ دون تحقيق ذلك.

ولما تنيح البابا يؤنس التاسع عشر، سمحت العناية الإلهية أن يتبوأ الأنبا مكاريوس العرش المرقسى ورسم بطريركا على الكرازة المرقسية فى يوم الأحد 13 فبراير سنة 1944م.

وبعد أن تبوأ كرسى البطريركية أصدر فى 22 فبراير سنة 1944م وثيقة تاريخية غرضها الأساسي إصلاح الأديرة وترقية رهبانها علمياً وروحياً، وأمر بمحاسبة نظارها ورؤسائها وقد أدى هذا الأمر إلى انقسام كبير بين المجمع المقدس والمجلس الملى العام. وفى 7 يونيو سنة 1944م قدم المجمع المقدس مذكرة إلى البابا البطريرك وإلى وزير العدل، بالاعتراضات على مشروع قانون الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية ، لانه يهدم قانونا من قوانين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كما أنه يمس سرين من أسرارها المقدسة وهما سر الزواج وسر الكهنوت، وهما من أركان الدين والعبادة.

وقد استمر النزاع وتعذر التوفيق بين المجمع والمجلس، وفشلت المحاولات التى قام بها لإزالة سوء التفاهم. وأصر المجلس على تدخله فى غير اختصاصاته. بل فيما هو من صميم اختصاص المجمع المقدس، حتى اضطر البابا إلى هجر العاصمة مقر كرسيه والاعتكاف فى حلوان ثم الالتجاء إلى الأديرة الشرقية بصحبة الآباء المطارنة. وبعد أن استقر فى دير الأنبا أنطونيوس قصد دير الأنبا بولا. وقد كان لهذه الحوادث المؤلمة ضجة كبيرة فى الأوساط واهتز لها كل غيور على الكنيسة.

ولما سمع رئيس الوزراء بهجرة البابا إلى الدير عمل على عودته مكرما إلى كرسيه فكلل عمله بالنجاح ورفع المجلس إلى البابا كتابا يلتمس فيه عودته حتى يتسنى تصريف شئون الكنيسة، والتضافر على السير فى طريق الإصلاح المنشود. وبعد ذلك عاد البابا من الدير فاستقبله الشعب استقبالا حافلا.

وانعقد المجمع المقدس برئاسته، وأصدر فى أول يناير سنة 1945 م بعض القرارات منها: تمثيل كنيسة أثيوبيا فى المجمع الإسكندري، تبادل البعثات بين مصر وأثيوبيا وإنشاء معهد إكليريكى بأثيوبيا،  قصر الطلاق على علة الزنا، وضع قانون للأحوال الشخصية، جعل لائحة ترشيح وانتخاب البطريرك متفقة مع القوانين الكنسية وتقاليدها،  إنشاء كلية لاهوتية للرهبان،  تشكيل لجنة دائمة لفحص الكتب الدينية والطقسية، المحافظة على مال الوقف وحسن سير العمل بالديوان البطريركى،  تنفيذ قانون الرهبنة الصادر فى 3 يونية سنة 1937م بكل دقة، واستدعاء الرهبان المقيمين خارج أديرتهم،  إنشاء سجل فى كل كنيسة يقيد فيه أفراد كل عائلة قبطية، وآخر يقيد فيه أسماء المعمدين والمرتقين إلى رتبة الشماسية والمنتقلين .

وفى يوم 6 يونية سنة 1945م حل فى القاهرة بطريرك روسيا فأوفد البابا مكاريوس وفدا من الآباء المطارنة لاستقباله، ثم تبادلا الزيارات الودية.

وبعد ذلك اشتد الخلاف بين قداسة البابا والمجلس الملى العام مرة أخرى. ولم يحل هذا الخلاف دون تولى البابا أمر الدفاع عن كيان أمته وقوانين الكنيسة، خصوصا قانون الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية. فرفع رؤساء الطوائف غير الإسلامية بالقطر المصرى، وعلى رأسهم بطريرك الأقباط الأرثوذكس بتاريخ 30 مايو 1945 م مذكرة إلى وزارة العدل بالاعتراض على القانون الخاص بتنظيم المحاكم الطائفية للأحوال الشخصية، وأخرى إلى مجلسى الشيوخ والنواب فى 25 يونيه سنة 1945م تحوى الاعتراضات التى يجب الالتفات إليها حتى يصبح موافقا لأحوالهم وتقاليد عائلاتهم.

وكان البابا يشكو ضعفا شديدا ألم به فى الأسبوعين الأخيرين من حياته اضطر لأن يلازم قصره معتكفا. وفى مساء الخميس 24 مسرى 1661ش (30 أغسطس 1945م) شعر بتعب شديد وأصيب بهبوط فى القلب فأسرع الأطباء لإسعافه حتى مطلع الفجر. وفى الساعة التاسعة والربع من صباح الجمعة 31 أغسطس سنة 1945م صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها، واحتفل قبل ظهر يوم الأحد 2 سبتمبر بتشييع جثمانه الطاهر إلى مقره الأخير بالكنيسة بين مظاهر الحزن والأسى ووضع تابوته بجانب أجساد البطاركة السابقين، بعد أن أقام على الكرسى البطريركى سنة واحدة وستة أشهر وتسعة عشر يوما. أسكنه الله مساكن الأبرار.

وتصادف أن حصلت زلزلة فى القاهرة فى الساعة الثانية والدقيقة 45 وقت الدفن، شعر بها الجميع، فتأثر نفوس المؤمنين لمشاركة الطبيعة لهم فى الحزن على انتقال هذا القديس الطاهر.

صلاته تكون معنا. ولربنا المجد دائما. آمين.